قانون

التهجير القسري للفلسطينيين من قطاع غزة: قراءة قانونية في ضوء أحكام القانون الجنائي الدولي

بقلم د. يوسف الديب

 

تمهيد: بين الواقع الجائر والإطار القانوني الحاسم

ولما كان القانون الجنائي الدولي قد استقر، بموجب نصوصه وأحكامه، على تجريم الأفعال التي تستهدف التغيير الديموغرافي القسري، باعتبارها من أخطر الجرائم ضد الإنسانية، وحيث إن إسرائيل قد أعلنت، بوجهٍ سافرٍ، عن إنشاء وكالة تُعنى بتهجير الفلسطينيين من قطاع غزة قسرًا، فإن هذا الفعل لا يعدو أن يكون جريمةً دوليةً مكتملة الأركان، ينعقد الاختصاص في ملاحقتها ومعاقبة مرتكبيها للمحكمة الجنائية الدولية، وفقًا لأحكام نظام روما الأساسي. التهجير القسري في نظام روما الأساسي: جريمة لا غبار عليها وحيث إن المادة (7) من نظام روما الأساسي قد نصّت صراحةً على أن “إبعاد السكان أو النقل القسري لهم، متى ارتُكب في إطار هجوم واسع النطاق أو منهجي موجه ضد أي مجموعة من السكان المدنيين، يُعد جريمة ضد الإنسانية”، فإن ما تمارسه إسرائيل من سياسات تطهير ديموغرافي ضد الشعب الفلسطيني لا يُمكن أن يُفسَّر إلا على ضوء هذه المادة، إذ كيف يمكن لدولةٍ تدّعي الانتماء إلى النظام الدولي أن تتخذ من الحرب ذريعةً لاقتلاع شعبٍ من جذوره، وإجباره على المضي في تيهٍ جديد، كأنما يراد له أن يظل هائمًا على وجهه، لا وطن له ولا مستقر؟ وما انفكّت إسرائيل تمارس هذا الفعل المشين في مشهد يُذكِّرنا بقول الله تعالى: “إن الذين أجرموا كانوا من الذين آمنوا يضحكون، وإذا مروا بهم يتغامزون”، إذ كيف لا، وهي ترى في معاناة الفلسطينيين موضعَ سخريةٍ وتشفٍّ، حتى بلغ بها الأمر أن تجعل من التهجير القسري سياسةً ممنهجةً، ترعاها وكالةٌ رسميةٌ، في مخالفةٍ صارخةٍ لأبسط مبادئ القانون الدولي؟

وإذ كان التهجير القسري يُعدُّ، وفق المادة (49) من الاتفاقية الرابعة لجنيف، محظورًا على قوة الاحتلال “تحت أي ظرف كان”، فإن ما ترتكبه إسرائيل لا يُمثّل مجرّد انتهاكٍ عارضٍ، وإنما هو خروجٌ سافرٌ عن النظام القانوني الدولي، وتحدٍّ صارخٌ لإرادة المجتمع الدولي. بل إن هذه السياسات تتطابق، في جوهرها، مع ما ورد في كتاب الله، حيث يقول سبحانه: “وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك، ويمكرون ويمكر الله، والله خير الماكرين”، فما أشبه الليلة بالبارحة، وما أشبه مخططات التهجير الحديثة بذلك المكر القديم، حيث تتخذ القوة الغاشمة من البطش والاضطهاد وسيلةً لتحقيق مآربها، متناسيةً أن للباطل جولة، وللحق دولة.

ولئن كان التهجير القسري الذي تعرّض له الفلسطينيون عام 1948 يُمثّل وصمةَ عارٍ في جبين الإنسانية، فإن ما يجري اليوم ليس إلا استكمالًا لمخططٍ قديم، يُعاد إنتاجه بأدواتٍ جديدة، وكأنّ الفلسطينيّ كُتب عليه أن يكون كـ”الريشة في مهب الريح”، لا مأوى له ولا قرار. أفليس من العار أن يُنتزع الإنسان من أرضه مرّتين، وكأنما يراد له أن يكون كـ”السائمة” التي تُساق إلى حيث يشاء جلادها؟

وإذ كانت المحكمة الجنائية الدولية، بموجب نظام روما الأساسي، صاحبة اختصاصٍ أصيلٍ في ملاحقة الجرائم ضد الإنسانية، فإنها اليوم أمام اختبارٍ تاريخي، لا يقبل المراوغة أو التهاون. فهل ستنتصر للعدالة، وتضع حدًا لهذه الجريمة التي تتجسد أمام أعين العالم، أم أنها ستقف عاجزةً، كمن به “خرسٌ لا يُطيق نُطقًا”؟ إن هذه الجريمة، التي لم تكتفِ إسرائيل بارتكابها، بل أنشأت لها مؤسسةً تُديرها، لا يمكن أن تمر دون محاسبة، وإلا كان ذلك إقرارًا ضمنيًا بشرعية التطهير العرقي، وتكريسًا لمنطق القوة على حساب القانون، في مشهدٍ يُذكِّرنا بقول الله تعالى: “وتمكرون ويمكر الله، والله خير الماكرين”، فمهما طال الزمن، فإن العدالة، وإن تأخرت، لا تُخطئ طريقها، وإن طال ليل الظلم، فإن فجْرَ الحقِّ قادمٌ لا محالة.

أركان الجريمة في ضوء القانون الجنائي الدولي

 

ولما كان القانون الجنائي الدولي قد أرسى قواعد صارمة في تجريم الأفعال التي تستهدف التغيير الديموغرافي القسري، بوصفها من أخطر الجرائم ضد الإنسانية، وحيث إن إسرائيل تمارس سياسةً ممنهجةً لاقتلاع الفلسطينيين من أرضهم، عبر ممارسات قسرية تنتهك أبسط مبادئ العدالة الدولية، فإننا بصدد جريمةٍ متكاملة الأركان، تستوجب المحاسبة وفقًا لأحكام القانون الدولي.

أولًا: الركن المادي – الفعل الإجرامي ويتمثل هذا الركن في الفعل المادي المتمثل في الإبعاد القسري للسكان المدنيين عن موطنهم الأصلي، وهو ما تحققه إسرائيل من خلال سلسلة من الأفعال المترابطة، التي تنسج خيوط جريمة مكتملة الأوصاف. فمن القصف العشوائي، إلى الحصار المطبق، إلى سياسات التجويع الممنهج، نجد أنفسنا أمام مشهد يُعيد إلى الأذهان قوله تعالى: “إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعًا يستضعف طائفة منهم يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم، إنه كان من المفسدين”. فإسرائيل اليوم، بممارساتها، لا تختلف عن الطغاة الذين مروا عبر التاريخ، بل إنها تسعى إلى استئصال شعبٍ بأكمله من أرضه، تحت غطاءٍ زائف من المبررات الأمنية والسياسية.

ثانيًا: الركن المعنوي – النية الإجرامية :وحيث إن الجريمة الدولية لا تقوم إلا إذا اقترنت بالقصد الجنائي، فإن الركن المعنوي في جريمة التهجير القسري يتحقق متى ثبت أن الجاني قد ارتكب الفعل الإجرامي بنية تهجير السكان ونقلهم قسرًا. وهنا تتجلى الحقيقة الواضحة، إذ إن ما تمارسه إسرائيل لا يمكن تفسيره إلا بكونه خطة مدروسة تهدف إلى تفريغ قطاع غزة من سكانه الأصليين، تحت مسمياتٍ زائفة، كـ”المغادرة الطوعية”، بينما هي في جوهرها ليست إلا صورة حديثة للنكبة القديمة.أتراه عدلًا أن يُقتلع الفلسطيني من أرضه، ليُساق إلى المجهول، وكأنه قشةٌ في مهبّ الريح؟ أم تراه حقًا أن يُجبر المرء على اختيار المنفى أو الموت، في مشهد يذكّرنا بقول الله تعالى: “يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين فاعتبروا يا أولي الأبصار”؟ إن إسرائيل، وهي تمارس هذا الفعل، لا تترك مجالًا للشك في نواياها الحقيقية، فهي لا تسعى إلى “أمن مزعوم”، وإنما إلى اجتثاث الوجود الفلسطيني من جذوره، في جريمةٍ مكتملة الأركان، لا ريب فيها ولا التباس.

ثالثًا: الركن الخاص بالجرائم الدولية – الارتباط بالسياق الدولي وحيث إن التهجير القسري، وفقًا لنظام روما الأساسي، لا يُعد جريمةً معزولة، بل يجب أن يكون جزءًا من “هجوم واسع النطاق أو منهجي” ضد السكان المدنيين، فإن ما تمارسه إسرائيل يتجاوز مجرد الاعتداء العابر، ليكون سياسةً منهجية، تتكرر بأشكال مختلفة، منذ عقودٍ طويلة. فليست النكبة، ولا النكسة، ولا الحروب المتكررة إلا حلقاتٍ متتاليةٍ في مسلسلٍ لم ينتهِ، وكأنما يراد للفلسطيني أن يكون كما وصف الله حال بني إسرائيل بقوله: “وضُربت عليهم الذلة والمسكنة وباءوا بغضب من الله”، لكن الفرق هنا أن الفلسطيني هو الضحية، وأن الاحتلال هو من يستحق هذا الوصف، بما يرتكبه من جرائم بشعة، لم يعد بالإمكان إنكارها أو التهرب منها.

ونحن نري أنه إذ كان القانون الدولي قد أقرّ بأن التهجير القسري جريمةٌ ضد الإنسانية، فإن المحكمة الجنائية الدولية، ومعها المجتمع الدولي، أمام اختبار تاريخي، فإما أن يُقام ميزان العدالة، أو أن تُطوى صفحة القانون الدولي، ليصبح مجرد حبرٍ على ورق. فهل ستظل العدالة عمياء، صمّاء، بكماء، في وجه هذه الجريمة؟ أم أنها ستتحرر من قيود السياسة، لتقول كلمتها، ولو مرةً واحدة؟إن ما يجري اليوم ليس مجرد اعتداء، بل هو جريمةٌ مكتملة الأركان، ستبقى وصمةَ عارٍ في جبين الإنسانية، ما لم يُتخذ موقفٌ حازمٌ تجاه مرتكبيها. وكما قال تعالى: “ولا تحسبن الله غافلًا عما يعمل الظالمون، إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار”. فمهما طالت المهل، فإن للعدالة يومًا، وإن للباطل نهاية، وإن فجر الحقّ، لا محالة، قادم.

 تحريك الدعوى أمام المحكمة الجنائية الدولية

وإذ كان نظام روما الأساسي يُقرّ بمبدأ عدم الإفلات من العقاب، فإنه يوجب ملاحقة مرتكبي الجرائم الدولية، بغض النظر عن صفتهم الرسمية، مما يعني أن قادة إسرائيل، بوصفهم مسؤولين عن تدبير وتنفيذ مخطط التهجير القسري، يجب أن يُحالوا إلى المحكمة الجنائية الدولية، باعتبارهم مسؤولين مسؤولية مباشرة عن هذه الجريمة.

وما انفك المجتمع الدولي يطالب بضرورة التزام إسرائيل بأحكام القانون الدولي الإنساني، إلا أن سياسة الإفلات من العقاب، التي تتستر خلف ازدواجية المعايير، لم تؤدِّ إلا إلى مزيد من الانتهاكات، مما يُلزم الدول الأطراف في نظام روما الأساسي بالتحرك الفوري لتقديم المسؤولين الإسرائيليين إلى العدالة الجنائية الدولية، حتى لا يكون القانون الدولي مجرد حبر على ورق، كما قال تعالى: *فأما الزبد فيذهب جفاءً وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض*.

التهجير القسري كجريمة حرب

 

ولئن كان التهجير القسري يُصنَّف ضمن الجرائم ضد الإنسانية، فإنه، في السياق الفلسطيني، يرقى أيضًا إلى جريمة حرب، بموجب المادة (8) من نظام روما الأساسي، التي تحظر “الإبعاد غير المشروع أو النقل القسري للسكان في إطار النزاعات المسلحة الدولية”.

إذ كيف يُمكن توصيف التهجير الذي يتم تحت القصف المستمر، والحرمان المتعمد من مقومات الحياة، إلا باعتباره استخدامًا للقوة العسكرية كأداة لإحداث تغيير ديموغرافي قسري؟ بل إن هذا الفعل يذكّرنا بقول الله تعالى: ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوة، إذ إن ما تمارسه إسرائيل بحق الفلسطينيين لا يعدو كونه صورةً متطرفةً من انعدام الإنسانية، تعكس قلوبًا لا تلين أمام صراخ الأطفال، ولا ترتجف أمام جثث الأبرياء، ولا تستجيب لدعوات العالم بوضع حدٍّ لهذا العدوان الغاشم.

وحيث إن قطاع غزة هو أرضٌ محتلةٌ وفق القانون الدولي، فإن النزاع القائم بين الاحتلال الإسرائيلي والشعب الفلسطيني يندرج ضمن النزاعات المسلحة الدولية، التي تنطبق عليها قواعد القانون الدولي الإنساني. وبالتالي، فإن تهجير السكان بالقوة، في هذا السياق، يشكل جريمة حرب صريحة، وفق أحكام المادة (8) من نظام روما الأساسي، واتفاقيات جنيف لعام 1949، ولا سيما المادة (49) من الاتفاقية الرابعة، التي تحظر على قوة الاحتلال نقل السكان قسرًا تحت أي ظرف كان.

وإذ كان الاحتلال الإسرائيلي يعتمد على استراتيجية “القصف لإخلاء المناطق”، فإن هذا النهج يُعد خرقًا للقانون الإنساني الدولي، الذي يحظر استهداف المدنيين أو إجبارهم على النزوح تحت وطأة العمليات العسكرية. فحين يُخيَّر الفلسطيني بين الموت تحت الأنقاض أو الفرار إلى المجهول، فإننا أمام صورةٍ بغيضةٍ من صور الإبادة البطيئة، التي لا تختلف، في جوهرها، عن المجازر المباشرة، بل إنها، في بعض جوانبها، أشد قسوةً وفتكًا.

وإذ كان القانون الجنائي الدولي يشترط، في توصيف جريمة الحرب، توافر القصد الإجرامي، فإن السياسة الإسرائيلية الممنهجة تُثبت، بما لا يدع مجالًا للشك، أن الهدف ليس مجرد عمليات عسكرية، بل هو تفريغٌ ديموغرافيٌ مقصودٌ، يرمي إلى تغيير التركيبة السكانية في الأرض الفلسطينية المحتلة. وإلا فبم يُفسَّر منع المساعدات الإنسانية؟ وكيف يُبرَّر استهداف الطرق التي يسلكها النازحون، في استباحةٍ وحشيةٍ لا تُبقي ولا تذر؟

وإذا كان التهجير القسري، في جوهره، يُشكل جريمة حرب، فإنه، في الحالة الفلسطينية، يتجاوز هذا الوصف إلى كونه تطهيرًا عرقيًا متكامل الأركان، يُمارَس بأساليب متعددة، تبدأ بالقصف والحصار، ولا تنتهي عند التهديد بعمليات اجتياحٍ شاملةٍ، تهدف إلى اقتلاع الفلسطينيين من أرضهم، كما تُقتلع الأشجار من جذورها، في مشهدٍ يذكّرنا بقول الله تعالى: فما لهم لا يؤمنون، وإذا قرئ عليهم القرآن لا يسجدون، بل الذين كفروا يكذبون، والله أعلم بما يوعون، فبشرهم بعذاب أليم، وكأنهم ماضون في إجرامهم، لا يثنيهم رادعٌ، ولا يهزّ ضمائرهم دماء الأبرياء.

وحيث إن القانون الجنائي الدولي يُلزم المجتمع الدولي بالتصدي لجرائم الحرب، فإن صمت الدول الفاعلة عن هذه الانتهاكات يُشكّل إخلالًا جسيمًا بالمسؤوليات القانونية والأخلاقية المترتبة على الدول الأطراف في نظام روما الأساسي. فإلى متى سيبقى هذا الإفلات من العقاب، وهذا التواطؤ الدولي، الذي يُذكّرنا بقوله تعالى: واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين؟ أليس من الغيّ أن تُترك الجرائم بلا محاسبة، وأن يُكتفى ببيانات التنديد، بينما تتواصل المجازر بلا هوادة؟

إن القانون الدولي لا يُكتب ليُحفظ في الأرشيفات، بل ليُطبَّق. وإذا لم تُفتح تحقيقاتٌ جديةٌ في هذه الجرائم، فإن المحكمة الجنائية الدولية ستُكرّس، بصمتها، سابقةً خطيرةً، تشرعن الاحتلال، وتفتح الباب أمام مزيدٍ من الجرائم بحق الشعوب المستضعفة. وإن غدًا لناظره قريب.

الختام: لا شرعية لجريمة ولا إفلات من العقاب

ولئن كان التهجير القسري يُصنَّف ضمن الجرائم ضد الإنسانية، فإنه، في السياق الفلسطيني، يرقى أيضًا إلى جريمة حرب، بموجب المادة (8) من نظام روما الأساسي، التي تحظر “الإبعاد غير المشروع أو النقل القسري للسكان في إطار النزاعات المسلحة الدولية”.

إذ كيف يُمكن توصيف التهجير الذي يتم تحت القصف المستمر، والحرمان المتعمد من مقومات الحياة، إلا باعتباره استخدامًا للقوة العسكرية كأداة لإحداث تغيير ديموغرافي قسري؟ بل إن هذا الفعل يذكّرنا بقول الله تعالى: ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوة، إذ إن ما تمارسه إسرائيل بحق الفلسطينيين لا يعدو كونه صورةً متطرفةً من انعدام الإنسانية، تعكس قلوبًا لا تلين أمام صراخ الأطفال، ولا ترتجف أمام جثث الأبرياء، ولا تستجيب لدعوات العالم بوضع حدٍّ لهذا العدوان الغاشم.

وحيث إن قطاع غزة هو أرضٌ محتلةٌ وفق القانون الدولي، فإن النزاع القائم بين الاحتلال الإسرائيلي والشعب الفلسطيني يندرج ضمن النزاعات المسلحة الدولية، التي تنطبق عليها قواعد القانون الدولي الإنساني. وبالتالي، فإن تهجير السكان بالقوة، في هذا السياق، يشكل جريمة حرب صريحة، وفق أحكام المادة (8) من نظام روما الأساسي، واتفاقيات جنيف لعام 1949، ولا سيما المادة (49) من الاتفاقية الرابعة، التي تحظر على قوة الاحتلال نقل السكان قسرًا تحت أي ظرف كان.

وإذ كان الاحتلال الإسرائيلي يعتمد على استراتيجية “القصف لإخلاء المناطق”، فإن هذا النهج يُعد خرقًا للقانون الإنساني الدولي، الذي يحظر استهداف المدنيين أو إجبارهم على النزوح تحت وطأة العمليات العسكرية. فحين يُخيَّر الفلسطيني بين الموت تحت الأنقاض أو الفرار إلى المجهول، فإننا أمام صورةٍ بغيضةٍ من صور الإبادة البطيئة، التي لا تختلف، في جوهرها، عن المجازر المباشرة، بل إنها، في بعض جوانبها، أشد قسوةً وفتكًا.

وإذ كان القانون الجنائي الدولي يشترط، في توصيف جريمة الحرب، توافر القصد الإجرامي، فإن السياسة الإسرائيلية الممنهجة تُثبت، بما لا يدع مجالًا للشك، أن الهدف ليس مجرد عمليات عسكرية، بل هو تفريغٌ ديموغرافيٌ مقصودٌ، يرمي إلى تغيير التركيبة السكانية في الأرض الفلسطينية المحتلة. وإلا فبم يُفسَّر منع المساعدات الإنسانية؟ وكيف يُبرَّر استهداف الطرق التي يسلكها النازحون، في استباحةٍ وحشيةٍ لا تُبقي ولا تذر؟

وإذا كان التهجير القسري، في جوهره، يُشكل جريمة حرب، فإنه، في الحالة الفلسطينية، يتجاوز هذا الوصف إلى كونه تطهيرًا عرقيًا متكامل الأركان، يُمارَس بأساليب متعددة، تبدأ بالقصف والحصار، ولا تنتهي عند التهديد بعمليات اجتياحٍ شاملةٍ، تهدف إلى اقتلاع الفلسطينيين من أرضهم، كما تُقتلع الأشجار من جذورها، في مشهدٍ يذكّرنا بقول الله تعالى: فما لهم لا يؤمنون، وإذا قرئ عليهم القرآن لا يسجدون، بل الذين كفروا يكذبون، والله أعلم بما يوعون، فبشرهم بعذاب أليم، وكأنهم ماضون في إجرامهم، لا يثنيهم رادعٌ، ولا يهزّ ضمائرهم دماء الأبرياء.

وحيث إن القانون الجنائي الدولي يُلزم المجتمع الدولي بالتصدي لجرائم الحرب، فإن صمت الدول الفاعلة عن هذه الانتهاكات يُشكّل إخلالًا جسيمًا بالمسؤوليات القانونية والأخلاقية المترتبة على الدول الأطراف في نظام روما الأساسي. فإلى متى سيبقى هذا الإفلات من العقاب، وهذا التواطؤ الدولي، الذي يُذكّرنا بقوله تعالى: واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين؟ أليس من الغيّ أن تُترك الجرائم بلا محاسبة، وأن يُكتفى ببيانات التنديد، بينما تتواصل المجازر بلا هوادة؟

وإذ كان القانون الجنائي الدولي قد أُنشئ لتحقيق العدالة ومنع الإفلات من العقاب، فإن أي تقاعس عن محاسبة إسرائيل على جرائمها، إنما يمثل انتهاكًا للعدالة الدولية ذاتها، ويفتح الباب أمام مزيد من الجرائم بحق الشعب الفلسطيني.

وما انفك التاريخ يُثبت أن الحقوق المسلوبة بالقوة، مهما طال الزمان، لا تُنسى ولا تُهمل، وأن الجريمة التي تُرتكب أمام مرأى العالم لن تظل دون حساب، كما قال تعالى: وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباءً منثورًا.

.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى