قانون

الجرائم الاقتصادية في القرآن الكريم: رؤية تشريعية رائدة

بقلم:د. يوسف الديب

مقدمة

إن الجرائم الاقتصادية ليست مجرد أفعال مخالفة للقانون، بل هي طعنات غادرة في قلب العدالة، تهدد استقرار المجتمعات، وتُخلّ بميزان الإنصاف، إذ إنها تُكرّس الفساد، وتُعمّق الفجوة بين الطبقات، فتزداد الهوة بين فئة تتحكم في الثروة بغير حق، وأخرى تُسحق تحت وطأة الحاجة والعوز. ولما كان الاقتصاد هو العمود الفقري لأي دولة، فإن العبث به يُفضي إلى خلل جسيم في بنيانها، فتضعف أركانها، وتهتز مؤسساتها، كصرح شامخ أُسّس على شفا جرف هار. ولم يكن القرآن الكريم غافلًا عن هذه الظواهر الخطيرة، بل جاء بمنهج تشريعي محكم، يُحاصر الفساد في منابعه، ويضرب بيدٍ من حديد على كل من تُسول له نفسه استباحة حقوق الناس بالباطل. فانظر كيف نهى الله عن التلاعب في الكيل والميزان، فقال جل شأنه: “وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ” (المطففين: 1-3)، وهو تحذير بالغ الدلالة، يُجسد صورة الفساد الاقتصادي في أشنع صوره، حيث لا يقتصر الأمر على الاحتيال، بل يمتد إلى استغلال حاجة الناس والتلاعب بأرزاقهم. وكذلك حذر القرآن من كنز المال واحتكاره دون وجه حق، فقال: “وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ” (التوبة: 34)، إذ كيف يكون الاقتصاد عادلًا إذا تحوّل المال إلى أداة للهيمنة والاستغلال، بدلًا من أن يكون وسيلة لتحقيق التوازن والتنمية؟! وما انفك التشريع الإلهي يؤكد على أن الثروة ليست امتيازًا لفئة دون أخرى، بل هي أمانة يُساءل عنها أصحابها، فإن أنفقوها في الحق، كانوا في مأمن، وإن احتكروها وظلموا بها الناس، نزل بهم العقاب، كما قال تعالى: “كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنكُمْ” (الحشر: 7)، وهو مبدأ يضرب بجذوره في عمق العدالة الاجتماعية، إذ لا يجوز أن تُستحوذ الأموال بطرق غير مشروعة، ثم تُترك لتتكدس في أيدي قلة، بينما السواد الأعظم يعاني شظف العيش. وفي ذات السياق، جاءت القوانين الجنائية الحديثة لترسيخ هذه المبادئ، فوضعت عقوبات صارمة للجرائم الاقتصادية، مثل جريمة غسل الأموال، والاحتكار غير المشروع، والفساد المالي، والرشوة، وكلها صور تتقاطع مع المفاسد التي حاربها التشريع الإلهي. ولا غرو أن تكون هذه القوانين مستمدة من الفطرة السليمة، التي لا تقبل بظلم الإنسان لأخيه الإنسان، ولا ترضى أن تتحوّل المجتمعات إلى غابة، يُفتَرس فيها الضعيف، ويعلو فيها شأن الطغاة والمستبدين. ولئن كان القانون الوضعي قد سعى إلى كبح جماح هذه الجرائم، فإن التشريع الإلهي سبق ذلك بقرون، ووضع الأسس الأخلاقية والشرعية التي تحول دون وقوعها ابتداءً، فكان تحريمه للربا، وللتلاعب في الأسواق، وللاحتكار، سدًّا منيعًا يحمي الاقتصاد من أن يصبح سلاحًا بيد فئة تتلاعب بمصائر الشعوب. فأين من ينادي اليوم بالحرية الاقتصادية المطلقة، دون قيود تحمي الحقوق وتصون الكرامات؟! وأين من يزعم أن الشريعة لم تتناول تفاصيل هذه الجرائم، في حين أن القرآن وضع لها الضوابط ببيان قاطع، وأحاطها بسياج من التشريعات المحكمة، فأقام العدل، وأبطل الفساد، وأرسى أسس النزاهة، قبل أن تعرف البشرية ما يسمى بالقوانين الاقتصادية الحديثة؟!

١- جريمة الاحتكار والتلاعب بالأسعار

لا غرو أن الاحتكار من أخطر الجرائم الاقتصادية التي تقوّض أسس العدالة، وتهدد استقرار المجتمعات، فهو ليس مجرد تصرف فردي لتحقيق الربح، بل هو ضربٌ من ضروب الظلم الذي يُلقي بظلاله القاتمة على الفقراء والمحتاجين، إذ يُحكم المحتكر قبضته على أقوات الناس، فيمنعها عنهم حين تشتد حاجتهم، فلا تُباع إلا بأسعار باهظة، فيتحول الاقتصاد إلى ميدان للابتزاز والاستغلال.

وقد تصدى القرآن الكريم لهذه الجريمة ببيان قاطع، محذرًا من بخس الناس حقوقهم، فقال تعالى: “وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ” (الأعراف: 85)، وهو نهيٌ جامعٌ، يُجرّم كل صور الظلم الاقتصادي، وعلى رأسها الاحتكار، حيث يَسلب المحتكر الناسَ حقهم المشروع في الحصول على السلع والخدمات بأسعار عادلة، فينهار بذلك ميزان الإنصاف، ويصبح الاقتصاد أداةً في يد فئة تتحكم في أرزاق العباد.

ولئن أراد أحد أن يرى صورةً حيةً لعاقبة الاحتكار، فلينظر إلى قصة يوسف عليه السلام، حينما أنبأه الله بسنوات القحط التي ستعم البلاد، فقال تعالى: “ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَٰلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ” (يوسف: 48)، فجعل الحل في التدبير الحكيم، لا في احتكار القوت وحرمان الناس منه، لأن ذلك يُفضي إلى الهلاك والمجاعة، وهو عين ما يفعله المحتكرون في عصرنا، إذ يُخفون السلع عند الأزمات، فلا يفرجون عنها إلا بأثمان باهظة، وكأنهم يُمارسون تجارة الموت لا تجارة الحياة.

وقد جاءت القوانين الوضعية، بعد قرون من التشريع الإلهي، لتُجرّم الاحتكار، وتضع العقوبات الرادعة لمن يَتعمد التلاعب بالأسواق، لأن التجربة البشرية أثبتت، بما لا يدع مجالًا للشك، أن الاقتصاد الحر لا يعني الفوضى، وأن ترك الأسواق بلا ضوابط يفتح أبواب الجشع والطغيان، فيتحول المال من وسيلة لتنمية الحياة إلى أداةٍ للتحكم في مصائر البشر.

إن الاحتكار، إذًا، ليس مجرد مخالفة قانونية، بل هو اعتداء على مبدأ التوازن الاقتصادي الذي أراده الله لعباده، كيلا يستبد القوي بالضعيف، ولا يَستأثر فئة من الناس بخيرات الأرض على حساب غيرهم. فهل آن الأوان لأن يُدرك العالم أن التشريع الإلهي لم يكن مجرد نصوص جامدة، بل هو منظومة متكاملة، تحفظ الحقوق، وتُقيم العدل، وتمنع الفساد، قبل أن تعرف البشرية معنى الاقتصاد السياسي والقوانين التجارية؟!

٢- جريمة الغش والتدليس في المعاملات التجارية

ولما كان العدل هو الركيزة التي تقوم عليها المجتمعات، فإن الإخلال به في أي صورة من صوره يُعد ضربًا من ضروب الفساد الذي يهوي بالأمم في هاوية الظلم والخراب. ومن أعظم صور هذا الظلم، الغش والتلاعب في الموازين والمكاييل، تلك الجريمة الاقتصادية التي لا تقتصر على نهب الأموال، بل تتعداها إلى إفساد المعاملات، وزرع الشك في النفوس، وتقويض الثقة بين الأفراد، حتى تُصبح الأسواق ميادين للخداع والمكر، بدلًا من أن تكون ساحات للعدل والإنصاف.

وقد صوّر القرآن الكريم هذه الجريمة بأسلوب بالغ القوة، محذرًا مرتكبيها من عاقبة وخيمة، فقال تعالى: “وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ” (المطففين: 1-3)، فجعل الويل، وهو وادٍ في جهنم، جزاءً لهؤلاء المطففين الذين لا يعرفون من العدل إلا ما يحقق مصالحهم، فيأخذون حقوقهم كاملة غير منقوصة، لكنهم يبخسون الناس حقوقهم، وكأنهم يزنون بمكيالين، أحدهما عادل لأنفسهم، والآخر جائر حين يكون للآخرين.

وهذا الغش في الميزان، وإن بدا في ظاهره مسألة تجارية، إلا أنه في جوهره صورة من صور الخيانة، إذ إن التاجر الذي يتلاعب بالمكاييل لا يسرق المال فحسب، بل يسرق الثقة، ويهدم القيم التي يقوم عليها الاقتصاد السليم، بل كأنه يستبدل بالعدل ظلماً، كما قال تعالى:”وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ” (النساء: 58)، فمن يَغُش في الميزان، إنما يَحكم بين الناس بغير العدل، فيكون بذلك خائناً للأمانة، مستحقاً للعقاب.

ولئن جاءت القوانين الوضعية بعد ذلك بعصور، لتُجرّم الغش التجاري، وتضع له العقوبات الرادعة، فإنها لم تزد على ما أقرّه التشريع الإلهي، إذ إن المنظومة الإسلامية قامت منذ فجرها على صيانة الحقوق، وتحقيق العدالة، دون حاجة إلى تنظيرات فلسفية، أو تجارب اقتصادية متعثرة، ذلك أن التشريع الإلهي كان وما زال، هو الميزان الحق، الذي يُقوِّم الانحراف، ويُسدّد المسيرة، ويضمن أن تسير المجتمعات في طريق النزاهة والعدل، بلا جور ولا تطفيف.

فهل بعد هذا البيان الرباني، يمكن لعاقل أن يتهاون في جرم الغش؟ وهل يدرك أولئك الذين يتلاعبون بالموازين أنهم لا يغشّون الناس فقط، بل يغشون أنفسهم، ويبيعون عدالة الله بثمن بخس، فتكون تجارتهم في الدنيا خاسرة، وعاقبتهم في الآخرة أشد وأخزى؟!

٣- جريمة الربا والاستغلال المالي

ولئن كان الظلم ظلمات يوم القيامة، فإن الربا هو أعتى تلك الظلمات، إذ إنه يكرّس الاستعباد المالي، ويُضاعف معاناة الفقراء، ويجعل من المال أداة لقهر الضعفاء بدل أن يكون وسيلة لتنمية المجتمعات ورخائها. فالربا، في جوهره، ليس مجرد معاملة مالية، بل هو استغلال محض، يسلب الإنسان كرامته، ويحوّله إلى رهينة في قبضة الجشع، حيث تتفاقم الفجوة بين الطبقات، فلا يغدو المال وسيلة للتداول العادل، وإنما يصبح أداة لاستعباد الفقراء وإثراء الأغنياء على حساب بؤس المعوزين.

وقد جاءت الآيات القرآنية بتحذير بالغ الشدة من هذه الجريمة، حتى صور الله تعالى حال المرابي بأبشع مشهد يمكن أن يكون عليه الإنسان، فقال: “الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ” (البقرة: 275)، فشبّههم بالممسوسين الذين تزلزلهم الأهواء، فيتعثرون في سيرهم كما يتعثر المختل عقليًا، وهو تشبيه قرآني في غاية القوة، يعكس اختلال التوازن الأخلاقي والإنساني لدى المرابي، إذ يفقد بصيرته، ويتخبط في مسعاه، فلا يرى سوى أرقام تتراكم في خزائنه، بينما تغرق قوارب الفقراء في طوفان الدين والاستغلال.

ولم يكن هذا التشديد في التحذير كافيًا، بل جاء القرآن بإعلان حرب صريحة من الله ورسوله على من يتجرأ على هذا الجرم، فقال: “فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ” (البقرة: 279)، فأي تهديد أشد وأقوى من أن يكون الإنسان في مواجهة حرب إلهية؟ وأي فساد أشد من فساد يستوجب أن يُرفع السيف الرباني في وجهه؟ إنه تهديد لا نظير له في كتاب الله، ولم يُوجَّه إلى أي معصية أخرى بهذه الصيغة المرعبة، وكأن الربا هو التحدي الأبرز لعدالة الله في الأرض، فإما أن تخضع المنظومة الاقتصادية لأحكام الله، وإما أن تكون في مواجهة مباشرة مع عدله وسننه.

ولئن حاولت الأنظمة الوضعية أن تحاصر الربا تحت مسميات أخرى، فإنها لم تفلح في اقتلاع جذوره، إذ كيف يُعالج الداء بأدواته؟ فالاقتصاد الربوي لا ينفك عن توليد الأزمات، وإثقال الشعوب بالديون، وخلق فجوة طبقية لا يلتئم صدعها، لأن المال في هذا النظام لا يُستثمر لتنمية المجتمعات، بل ليكون سلاحًا يُضاعف الثروات لمن يملك، ويُعمّق بؤس من لا يملك.

فيا ترى، هل يدرك أولئك المتورطون في دوامة الربا أنهم لا يتعاملون بأوراق نقدية، بل إنهم يُوقّعون على إعلان حرب ضد الله، حرب لا رابح فيها إلا الخراب، ولا نهايتها إلا الزوال؟!

٤- جريمة الفساد المالي ونهب الأموال العامة

ولئن كان المال عصب الحياة، فإنه في يد الفاسدين يتحول إلى خنجر يُغرس في قلب العدالة، إذ يتلاعبون بمقدّرات الشعوب، ويسخّرون المال العام لخدمة مصالحهم، غير مبالين بأمانة المسؤولية التي يحملونها. فليس الفساد المالي مجرّد انحراف فردي، بل هو سرطان ينخر جسد الأمة، حتى إذا استشرى، قوض أركانها، وأحالها إلى كيان مهترئ، لا يستقيم فيه ميزان العدل، ولا يُؤتمن فيه على الحقوق.

وقد جاء التحذير الإلهي صارخًا في قوله تعالى: “وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ” (البقرة: 188)، فشبّه الله المال العام بمال الجماعة، إذ جعله مشتركًا بينهم، فمن اعتدى عليه، فكأنما اعتدى على حقوق الأمة بأسرها، فهو ليس مجرد مال يُسرق، بل هو قوت الفقراء، ومستقبل الأجيال، وحجر الأساس لنهضة المجتمعات.

وهذا التحذير الرباني لم يكن عبثًا، إذ كيف تُبنى الأوطان إذا كانت مقدّراتها تُنهب بأيدي من ائتُمنوا عليها؟ وكيف يتحقق الرخاء إذا كان المال الذي يُفترض أن يكون وسيلة لإنصاف المظلومين، أصبح وقودًا لإثراء الظالمين؟ إن الفساد المالي هو الباب الذي إذا فُتح، تداعت منه كل الشرور: من رشوة تُفسد الضمائر، إلى اختلاس ينهب مقدّرات الدولة، إلى استغلال نفوذ يُحيل السلطة إلى أداة لخدمة المصالح الشخصية، حتى يُصبح القانون مجرد حبر على ورق، لا يُطبق إلا على الضعفاء، بينما يجد الأقوياء ألف طريق للنجاة بجرائمهم.

وقد ضرب القرآن مثلًا عظيمًا في عاقبة الفساد المالي، حين قصّ علينا قصة قارون، ذلك الذي طغى بماله، وظن أن ثروته تحصنه من الحساب، فكان مآله كما أخبر الله في محكم تنزيله: “فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ” (القصص: 81)، فإذا بالمال الذي كان سببًا في استكباره، يصبح لعنة تبتلعه، وكأن الأرض تأبى أن تحمل فوقها من جمع ثروته بالباطل.

ولئن كانت القوانين الوضعية تضع عقوبات على الفساد المالي، فإن العقوبة الإلهية أعظم وأشد، إذ إن المال الحرام وإن كثُر، فإنه يُمحَق، فلا بركة فيه، ولا دوام له، وكأن صاحبه يبني قصرًا من سراب، سرعان ما ينهار تحت وطأة الظلم والجشع.

فهل يدرك أولئك الذين ينهبون أموال الشعوب أنهم يسيرون في طريق هلكة، وأنهم وإن أفلتوا من قبضة القانون، فلن يفلتوا من قبضة العدالة الإلهية؟ أتراهم لا يعتبرون بمصارع الظالمين، حيث لا يبقى من ملكهم إلا أنقاض تروي حكايات الطغيان، وشواهد تشهد على أن المال إذا لم يكن أمانة، كان لعنةً تحلّ بصاحبه قبل أن تحلّ بمن سُلبت منه حقوقه؟!

٥- جريمة السرقة الاقتصادية ونهب الثروات

ولئن كانت السرقة في ظاهرها اعتداءً على ملكية فرد، فإنها في جوهرها اعتداء على ميزان العدل بأسره، إذ لا تستقيم أمة يُستباح فيها المال بغير حق، ولا يَأمَن فيها المرء على رزقه وكدحه. لذلك جاء الردع الإلهي حاسمًا في قوله تعالى: “وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِّنَ اللَّهِ” (المائدة: 38)، فكان العقاب بقدر الجريمة، لا لمجرد الردع، بل لإقامة العدل وحماية الحقوق.

غير أن السرقة لم تقتصر على لص يسطو في جنح الظلام، أو يدٍ تمتد خفية إلى أموال الغير، بل اتخذت أشكالًا أكثر دهاءً وأشد خطرًا، إذ ظهرت في ثوب الجرائم الاقتصادية، حيث ينهب المجرمون ثروات الشعوب بأساليب ملتوية، مستغلين نفوذهم وسلطتهم، فيحرفون القانون ليكون مطيةً لأطماعهم، ويحوّلون المال العام إلى خزائنهم الخاصة، وكأنهم لم يقرأوا قوله تعالى: “إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَىٰ أَنفُسِكُم” (يونس: 23)، فمهما بدا لهم أنهم في مأمن، فإن العاقبة وخيمة، والمصير محتوم.

وما انفكت السنن الإلهية ترينا مصير كل من اغتصب حقوق الناس، فما أكثر الذين بنوا قصورهم بأموال محرمة، ثم لم تمهلهم الأيام حتى رأيناهم يتساقطون، كما تسقط أوراق الخريف حين تأتيها الريح فتذروها، وكأنهم لم يكونوا بالأمس يتبخترون بما جمعوا، فما أشبه حالهم بمن قال فيهم القرآن: **”فَأَصْبَحَ لَا يُرَىٰ إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ” (الأحقاف: 25)، فكأن الأرض قد لفظتهم، تأبى أن تحمل فوقها ظلمهم وجشعهم.

وإن كان القانون يعاقب السارقين، فإن العقوبة الإلهية أشد وأبقى، فالمجتمعات التي تتسامح مع سرقة الأموال العامة، إنما تفتح على نفسها أبواب الفساد، حتى يصبح الفقر قدر الضعفاء، والغنى حكرًا على المتنفذين، وآنذاك لا يُرجى من الأمة إلا أن تؤول إلى مصير الأمم التي أُهلكت بظلمها، حيث لا ينفع الندم، ولا يُستعتب الظالمون.

فهل من معتبر قبل فوات الأوان؟ أم تراهم لا يفقهون أن المال الحرام وإن أغرى أصحابه بالبقاء، فإنه في حقيقته نارٌ تأكلهم من حيث لا يشعرون، حتى يُحال بينهم وبينه، فإذا بهم يسألون: “مَنْ يَرُدُّنَا” (الشعراء: 102)، ولكن هيهات، فقد فات الميعاد!

٦- جريمة الغصب والاستيلاء على أموال الآخرين بغير حق

ولئن كان الغصب استيلاءً بغير حق على مال الغير، فهو في حقيقته أبشع صور الظلم، إذ يسطو القوي على حق الضعيف، فيجعل من نفوذه وسيلة لسلب ما لا يستحق، كمن يسرق في وضح النهار، ثم يزعم أن المال قد صار له بجبروته. ولم يكن القرآن ليترك هذا العدوان دون وعيد، بل توعد الغاصبين بأشد العقوبات، فقال: “إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَىٰ ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا” (النساء: 10)، فليت شعري، أي يد تمتد إلى مال الضعفاء والأيتام دون أن ترتعد رهبةً من هذا الوعيد القاطع؟

وما انفك التاريخ يسجل مصائر الغاصبين، فما من ظالم استولى على أموال غيره إلا وأحاط به سوء العاقبة، فإن طال به الأمد وظن أنه قد نجا، جاءه العقاب بغتة، كما جاء على قارون يوم اختال بثروته، فكان مصيره أن “فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ” (القصص: 81)، ليكون عبرة لكل من اعتقد أن المال المُغتصب يُطيل البقاء أو يمنح الأمان.

وكيف لم يعتبر هؤلاء وقد رأوا مصارع من سبقهم، كأنهم لم يسمعوا أن المال الذي جُمع بغير حق هو في حقيقته نارٌ تأكل صاحبه قبل أن تمتد يده إليه، فما أشبههم بمن قال فيهم القرآن: “وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ”(إبراهيم: 42)، فمهما طالت سطوتهم، فإن العدالة آتية لا محالة، وسينقلب عليهم ما نهبوه، إذ كيف يُبارَك مال أُخذ بالسيف والسلطان؟

إن الغاصب وإن ظن أنه قد ظفر بمال غيره، فإنه في الحقيقة قد كتب على نفسه شقاءً لا مفر منه، فلا غرو أن يكون المال الحرام كسراب يُحسبه الظمآن ماءً حتى إذا جاءه لم يجده شيئًا، بل وجد سوء عاقبته تلاحقه حيث ظن الأمان. فهل من مُتعظٍ قبل أن تُسدَّ عليه كل السبل، فلا يجد إلا حسراتٍ تمتزج بندمٍ لا يجدي؟

٧- جريمة التلاعب بالعملات والفساد المالي العالمي

ولئن كان الغش في المعاملات من أقدم صور الفساد، فقد بلغ في زماننا مبلغًا أشد خطرًا وأعظم أثرًا، حيث أضحى التلاعب بأسواق المال، واحتكار العملات، والسيطرة على الاقتصاد العالمي، أشبه بطوفان يهدم أسس العدل، ويجعل الفقراء في قبضة حفنة من أصحاب النفوذ المالي، يتلاعبون بالأسعار كما تُحرَّك قطع الشطرنج.

وما انفك القرآن يحذر من هذا الظلم الاقتصادي، إذ جعل الجزاء محيطًا بصاحبه، مهما خفيت حيله أو احْتَجَبَت أساليبه، فقال تعالى: “فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ” (الزلزلة: 7-8). فأتُراهُ من يعبث بأرزاق الشعوب، ويضرم النار في أسواق المال، ثم يظن أنه قد نجا، قد غاب عنه هذا القانون الإلهي الذي لا يُحابي أحدًا؟

إن المتلاعبين بالاقتصاد، أولئك الذين يستغلون الثغرات لإثراء أنفسهم على حساب معاناة الملايين، ليسوا إلا كقوم بني إسرائيل حين احتالوا على أمر الله، فتحايلوا في أمر الصيد يوم السبت، فظنوا أنهم قد خدعوا القدر، وما لبث أن أدركهم العقاب، فقيل لهم “كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ”(البقرة: 65)، فهل يظن المحتكرون أنهم في مأمن من المآل نفسه، وقد أفسدوا أرزاق الخلق، وأشعلوا فتيل الأزمات المالية؟

ولئن كان الغش الفردي جريمة، فإن التلاعب بأسواق المال جريمة أشد، إذ كيف يُفسح المجال لأيدٍ خفية تتحكم في العملات، وترفع الأسعار حتى يُسحق الفقير، بينما يمضي الساسة صامتين، كأنما ألجموا بزمام المصالح؟ إذ كيف تكون العدالة قائمة، وأموال الشعوب تُنهب تحت مسميات قانونية زائفة، لا تختلف في جوهرها عن نهب القوافل في العصور الغابرة؟

لا غرو إذن أن يكون العقاب لهذا الجُرم بحجم تأثيره، فمن يزرع الغش والخداع في ميزان الاقتصاد، يحصد زلزالًا يقوض عرشه، لأن العدالة وإن أمهلت، لا تغفل، ولأن أموال الفقراء المهدورة تصير نذيرًا لمن استهان بها، حتى يفيق على خراب لا نجاة منه.

٨- جريمة الظلم الاقتصادي وحرمان العمال من حقوقهم

إن الظلم الاقتصادي ليس مجرد تعدٍّ على المال، بل هو هدمٌ لبنيان المجتمع من أساسه، إذ يجعل القوي يزداد طغيانًا، والضعيف يغرق في دوامة العوز والحاجة، حتى تصبح الفجوة بين الطبقات كالسد المنيع، لا يزداد إلا ارتفاعًا واتساعًا. ولئن كان الله قد حرم الظلم بكل أشكاله، فقد جاء في كتابه الكريم تحذيرٌ صارخ من أي صورة من صور الاستغلال الاقتصادي، فقال تعالى: “وَلَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ” (البقرة: 279)، وهي قاعدةٌ جذريةٌ تقطع دابر كل استغلال، وتضع حدًا لكل جشعٍ يلتهم حقوق الضعفاء.

أتُراهُ الذي يستعبد العمال بأجور زهيدة، وينتزع منهم عرق جبينهم، ثم يلقي إليهم بالفتات، هل يظن أنه قد أفلت من الحساب؟ إذ كيف يُبنى اقتصاد على عظام المساكين، ويُشاد مجدٌ فوق أنين المضطهدين؟ ألا يعلم هؤلاء أن سنة الله لا تحابي أحدًا، وأن من يأكل حقوق الناس سيجدها نارًا في بطنه يوم لا ينفع الندم؟

وما انفك التاريخ يكرر دروسه، فما من أمةٍ قامت على الجور والظلم الاقتصادي إلا وكانت نهايتها كبيت العنكبوت، لا يلبث أن ينهار مع أول ريح. ألم تر كيف سقطت إمبراطوريات كانت تظن نفسها خالدة، فإذا هي تتهاوى لأن نظامها الاقتصادي لم يكن قائمًا على العدل، بل على الاستغلال والطغيان؟

إن فرض الضرائب الجائرة على الفقراء، وإغراق الشعوب في دوامة الديون، وتحويل الاقتصاد إلى أداةٍ لاستعباد البشر، هو انحرافٌ عن الميزان الذي جعله الله قائمًا على القسطاس المستقيم، ولذا جاء تحذير الله شديدًا، إذ قال: “وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَىٰ” (الأنعام: 152)، فكيف يُترك الضعيف يئن تحت وطأة الظلم، بينما تُمنح الامتيازات للأقوياء دون حق؟

لا غرو إذن أن يكون العقاب بحجم الجريمة، فمن يفسد نظام العدل الاقتصادي، يهوي في قعر سحيق لا خلاص منه، حتى تأتي لحظة الحساب التي يتمنى فيها أن يعود إلى الوراء، ولكن هيهات… هيهات.

الختام: الميزان الإلهي والعدالة الاقتصادية

إن الجرائم الاقتصادية في القرآن الكريم لم تكن مجرد زلات عابرة أو سلوكيات خاطئة تستوجب التأديب، بل هي اعتداءات صارخةٌ على حقوق الأفراد والمجتمعات، تزلزل بنيان الاستقرار الاقتصادي، وتفتح أبواب الفقر والبطالة على مصاريعها. ولئن كان المال قوام الحياة، فإن اختلال ميزان العدالة فيه يُفضي إلى فسادٍ لا حد له، يُنذر بهلاك الأمم وانهيار الحضارات، كما شهد التاريخ بذلك مرارًا.

وقد جاء التشريع الإلهي ليؤسس نظامًا اقتصاديًا قائمًا على القسط، حيث لا غبن ولا استغلال، ولا ظلم ولا احتيال، بل عدلٌ محضٌ، لا تميل به الأهواء ولا تعبث به المصالح. فكان القرآن الكريم سابقًا لكل التشريعات الوضعية، واضعًا حدودًا فاصلة بين الحق والباطل، ومقررًا قواعد صارمةً تحمي الحقوق الاقتصادية، وتجتث الفساد من جذوره، وتحول دون استئثار فئةٍ قليلة بخيرات الأرض على حساب المستضعفين.

وما انفك هذا النظام الإلهي، الذي سبق القوانين الحديثة بقرون طوال، شاهدًا على أن العدالة ليست وليدة زمان، ولا هي نتاج اجتهاد بشريٍّ عابر، بل هي ميثاقٌ ربانيٌّ خالد، من تمسك به نجا، ومن أعرض عنه كان كمن يمشي في الظلمات، لا يهتدي إلى سبيل.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى