قانون

الحماية الجنائية لمقدمي الخدمة الطبية في ضوء قانون المسؤولية الطبية وسلامة المريض

بقلم: د. يوسف الديب ،عضو الجمعية المصرية للقانون الجنائي

أولاً : التعريف اللغوي والتشريعي لمقدّم الخدمة الطبية

في ميزان اللغة، يُستفاد من جذر لفظ “الخدمة” أنّها الفعل الذي يصدر من المرء تطوّعًا أو تكليفًا، بقصد المنفعة لغيره، وهي مشتقة من الفعل “خَدَمَ”، أي بذل الجهد لحاجة الغير. وجاء في لسان العرب أن “الخادم من يخدمك، والخِدمة هي العمل الذي يُبتغى به قضاء مصلحة للآخر”. وعليه، فإنّ “مقدّم الخدمة” لغةً، هو من يضع علمه أو جهده أو مهارته موضع التطبيق في سبيل تلبية حاجة غيره، تحقيقًا لمصلحة أو درءًا لمفسدة.

أما في الاصطلاح القانوني، وبوجه أخص وفقًا لما أورده قانون المسؤولية الطبية وسلامة المريض الصادر بالجريدة الرسمية – العدد 17 مكرر في 28 إبريل 2025 – فقد نصّ المشرّع على أن:

على الرغم مما يبدو من بساطة التعريف التشريعي لمقدّم الخدمة الطبية – وهو:

“شخص يزاول مهنة من المهن الطبية ويقوم بعمل من أعمال الخدمة الطبية أو يشارك في القيام بها وفقًا لأحكام القوانين المنظمة لذلك”

إلا أنّ هذا التعريف، في ميزان الدقة التشريعية، لا يرقى إلى المستوى المطلوب لضبط مركز قانوني بهذه الحساسية، سواء من جهة وضوح المفاهيم، أو من حيث شمول الصياغة وكفايتها العملية.

فأول مواطن القصور في هذا التعريف، افتقاره إلى التحديد النوعي لمهن “المهن الطبية”. فقد ترك النص هذا الاصطلاح مطلقًا دون بيان أو إحالة حصريّة إلى القوانين التي تنظمها، مما يُحدث اضطرابًا عند التطبيق العملي. فهل تدخل مهن التحاليل، والعلاج الطبيعي، والأشعة، والرعاية النفسية ضمن هذا الوصف؟ أم تُستبعد لعدم التصريح؟ إن ترك المسألة لتقدير الجهات التنفيذية دون ضبط تشريعي يُعدّ إخلالًا بمبدأ الشرعية واليقين القانوني، خاصة إذا كان النص هو مدخلًا للمساءلة الجنائية أو التأديبية.

أما ثاني المآخذ ، فهو أن التعريف استخدم عبارة “يقوم بعمل من أعمال الخدمة الطبية أو يشارك في القيام بها”، وهي عبارة فضفاضة لا تُحدّد نطاقًا دقيقًا للمسؤولية. فهل تُسند صفة “مقدّم خدمة” لكل من يشارك جزئيًا أو إجرائيًا أو إداريًا في عمل طبي؟ كالممرّض، والمساعد، وفني الأشعة؟ بل هل تشمل هذه المشاركة الأدوار غير المباشرة التي تقع خارج التوصيف السريري؟ هذا التوسّع غير المحكوم يُهدّد بتحويل التعريف إلى شبكةٍ تصطاد فيها المسؤولية من لا ينبغي أن تُسند إليه، أو تفلت منها من يستحقها.

وثالثًا، فإن شرط “وفقًا لأحكام القوانين المنظمة لذلك” لا يُضيف إلى التعريف إلا تعميمًا مبهَمًا، إذ لم يُحَل النص إلى قانون محدد أو لائحة بعينها، ما يُوقع التعريف في دائرة العمومية المفرطة، ويجعل من نطاقه خاضعًا لاجتهادات متباينة في التطبيق القضائي والإداري، وهو ما يُخالف جوهر الضبط التشريعي الذي يُفترض أن يُحقق القطع لا الظن، والتحديد لا الاحتمال.

ولذلك كله، فإن هذا التعريف – بصيغته الحالية – يُعتبر تعريفًا مفتقرًا للوضوح، منقوصًا في عناصره، غير مانع في دلالته، ولا جامع في شموليته، الأمر الذي يستوجب إعادة صياغته بلغة أدق ومفاهيم أصرح، تليق بقانون يلامس صميم حياة الإنسان وسلامته الجسدية.

ونقترح أن يُعاد تعريف مقدّم الخدمة الطبية على النحو التالي:

” كل شخص حائز ترخيصًا قانونيًا بمزاولة إحدى المهن الطبية، ويقوم بصفة أصلية أو تبعية، فعلًا أو حكمًا، بمباشرة أي إجراء وقائي أو تشخيصي أو علاجي أو تأهيلي متعلق بصحة الإنسان، سواء تم ذلك بصورة مباشرة أو من خلال دور مساند، ضمن حدود المهنة وبما تقرره القوانين واللوائح المنظمة لذلك.”

ويمتاز هذا التعريف بالآتي:

  • التقييد الصريح بالترخيص القانوني منعًا للتوسع غير المشروع.

  • شمول الإجراءات الوقائية والتشخيصية والتأهيلية إلى جانب العلاج.

  • التمييز بين الأداء المباشر والمساند دون غموض.

  • الإحالة الدقيقة إلى اللوائح المنظمة دون إطلاق مبهم.

ثانياً: الحماية الجنائية لمقدمي الخدمة الطبية 

ينص الفصل الخامس من قانون المسؤولية الطبية وسلامة المريض في مادته 24 على ما يلي:

“يعاقب بالحبس لمدة لا تزيد عن سنة أو بغرامة لا تتجاوز عشرة آلاف جنيه، كل من أهان بالإشارة أو القول أو التهديد أحد مقدمي الخدمة أثناء تأدية مهنته أو بسبب تأديتها.”

بتحليل نص المادة (24) من قانون المسؤولية الطبية وسلامة المريض، يتضح لنا أن المشرع قد رسم ملامح جريمة إهانة مقدمي الخدمة الطبية على نحو يتيح استخلاص أركانها القانونية بجلاء ووضوح، على النحو التالي:

  • الركن المادي، ويتكون من ثلاثة عناصر متلازمة؛

1- السلوك:

“الإشارة” في مدلولها اللغوي – كما قرر أئمة اللغة في معاجمهم الجليلة – هي كل علامة غير ملفوظة يُعبَّر بها عن المعنى، فقد جاء في لسان العرب أنّ الإشارة هي ما يصدر عن المرء من حركة بالرأس أو اليد أو العين أو الحاجب ليدلّ بها على مراده من دون كلام، فهي دلالة صامتة تحمل في طيّاتها قوة الإفصاح والإفحام. أما في الفقه القانوني، فقد استقر النظر على أن الإشارة قد تُكوّن بذاتها فعلاً إجراميًا متى انطوت على معنى مهين أو تحقيري، ذلك أنّ العبرة في الإهانة ليست بمظهرها المادي فحسب، بل بما تحمله من دلالة تعبيرية تُخلّ بمقام المجني عليه وتهدر اعتباره في أعين الناس. وتتجلى الإشارات المهينة في صور شتى؛ كرفع الأصبع ذي الدلالة السوقية، أو إصدار حركة وجهية تنم عن سخرية لاذعة، أو حتى الإيماء باحتقار أثناء أداء المهنة، وكلها تُعدّ – في عرف القانون – من وسائل الإهانة المعاقب عليها متى توافرت إرادة الإيذاء المعنوي. وإذا ما طبّقنا هذا المعنى على جريمة إهانة مقدّم الخدمة الطبية – كما نظمها قانون المسؤولية الطبية وسلامة المريض في مادته الرابعة والعشرين – فإنّ أي إشارة تصدر عن المتهم، وتُفهم عرفًا أو اصطلاحًا على أنها تمس كرامة الطبيب أو الممرض أو أي من العاملين في مهنة الطب أثناء تأديتهم لواجبهم، أو بسبب تأديته، تُعدّ سلوكًا مجرّمًا يحقق الركن المادي للجريمة. فالإشارة في هذا السياق ليست مجرد حركة عابرة، بل فعلٌ له وقعُ السباب الصريح، لا سيّما إذا جاءت متعمدة وبصورة توحي بالاستهزاء أو التحطيم النفسي. ومن ثمّ، فإن المشرّع حينما أورد لفظ “الإشارة” في صلب نص التجريم، قد أحسن السبك والتمييز، فجعل من هذا الفعل الصامت صيحة إهانة يُرتب عليها العقاب، إعمالًا لحماية هيبة المهنة الطبية، وصونًا لكرامة من نذروا أنفسهم لخدمة حياة الناس وآلامهم.

ولمّا كان القانون الجنائي يستلزم من النصوص أن تُصاغ بألفاظ قاطعة لا تقبل التأويل الفاسد ولا التوسع المخل، جاءت إشارة المشرّع في المادة الرابعة والعشرين من قانون المسؤولية الطبية وسلامة المريض إلى “الإهانة بالإشارة” بمثابة اعتراف صريح بخطورة الإيذاء غير اللفظي، الذي قد يفوق القول المباشر أثرًا وإيلامًا، إذ إن الإشارة لغة الجسد التي ما انفكت تُترجم مكنونات النفس وانفعالاتها، وتُجسّد، في أحيان كثيرة، الكره أو الاحتقار بصورة أفصح من ألف لفظ.

فـ”الإشارة” هي كل ما يدل على معنى بغير نطق، سواء أكانت حركةً باليد، أم تقطيبةً بالوجه، أم لفتةً بالرأس، وقد ورد في القاموس المحيط أن الإشارة هي “ما يُفهم به المقصود من دون نُطق”، وفي ذلك دلالة على أن الصمت لا يعفي من المسؤولية متى اقترن بتعبير جارح يمس الكرامة. أما في السياق القانوني، فالإشارة تُعد وسيلة من وسائل الإهانة متى انطوت على مدلول مهين يُفهم في ضوء أعراف المجتمع وسياق الواقعة، ولا يُشترط فيها أن تكون فاضحة بذاتها، بل يكفي أن تُفهم عرفًا على أنها انتقاص من قدر المخاطَب، أو سخرية من عمله، أو تحقير لشخصه.

وتتجلى الإشارة المهينة في ثلاث صور: أولها، الإشارات الجسدية، كالتي يُرفع فيها إصبع بعينه، أو يُلوّح بحركة تنطوي على ابتذال أو سخرية؛ وثانيها، الإشارات الوجهية، كالعبوس المتعمّد، أو النظرة الحادة التي تنضح بالاحتقار، أو الابتسامة الساخرة التي تنطق بالإهانة وإن سكت اللسان؛ وثالثها، الإشارات الرمزية بالأدوات، كالرسم المُهين، أو التلويح بصورة تحقيرية، أو استخدام رموز مشوّهة تمس الهيبة والاعتبار.

ولئن كان البعض قد يستخف بمثل هذه الحركات، ظانًّا أنها محض انفعالات لا ترقى إلى مرتبة الجريمة، فإن القانون – وهو ميزان العدل وهيبة الدولة – لا يقبل بهذا التهاون، إذ كيف يُعقل أن يُترك الطبيب أو الممرض أو أي من أهل الطب، عُرضة لسخرية جسدٍ ساخر أو وجهٍ عابس، وهم في خندق الرحمة، يداوون السقيم، ويسهرون على راحة الأجساد المتألمة؟! أتُكافأ الرحمة بالإهانة، والعلم بالاحتقار؟ لا غرو أن المشرّع حينما جرّم الإهانة بالإشارة، إنما نصب لهذا الفعل الشائن سورًا منيعًا من الردع، حمايةً لهيبة المهنة، وصونًا لكرامة من حملوا أمانة الجسد والروح معًا.

القول” ولمّا كان القول هو مرآة القلب ولسان الضمير، يُفصح به المرء عمّا اختلج في صدره من عاطفة أو فكرة، وكان من أدوات الإنسان الأولى للتأثير في محيطه، فإنّ الكلمة قد تكون سيفًا أو بلسمًا، جسرًا أو حاجزًا، وقديمًا قالوا: “جرح السنان يلتئم، وجرح اللسان لا يلتئم”. إذ إن القول، في لغة العرب، ليس مجرّد نُطقٍ بحروفٍ تصطف على الألسنة، بل هو بيانُ النفس وتجلي العقل، كما جاء في لسان العرب: “القول ما عبّر به الإنسان عما يريد”، ولئن كان الصمت حكمة، فإنّ الكلمة مسؤولية، تحمل في طيّاتها ما يرفع من قدر، أو يُسقط من هيبة. وفي ضوء هذا الإدراك العميق لسلطان اللفظ، ذهب الفقه الجنائي إلى اعتبار القول – متى انطوى على إهانة صريحة أو ضمنية – فعلًا مجرَّمًا، إذا ما مسّ الكرامة أو خدش الشرف أو قزّم المقام، سواء أكان ذلك في صورة سبّ فجّ، أم تهكّمٍ لاذع، أم تعبيرٍ يحمل في ظاهره الاحترام وفي باطنه الانتقاص، ذلك أن الإساءة، كما النار الخفية، قد تكمن في نبرة الصوت أو ترتيب الكلمات، لا في بذاءة الظاهر فقط.

وإذ إن المشرّع في قانون المسؤولية الطبية وسلامة المريض، لم يكن بمنأى عن هذا الفهم الدقيق لما للكلمة من أثر، فقد جعل من “القول” صورة أولى من صور الإهانة التي تُرتب المسؤولية الجنائية على فاعلها، حمايةً لمقامي المهنة والإنسان معًا، وتكريمًا لمن جعلوا من سهر الليالي على المرضى سبيلًا للتضحية والبذل. فلا يُعقل – في ميزان العدل والإنصاف – أن يُكال التحقير لطبيب يداوي، أو يُصب الغلّ في وجه ممرض يُغيث، أو يُهان فنيٌّ يُمسك بجهاز يحدّد حياة مريض أو نجاته. فالقول، إن خرج عن حدّه، غدا كالسهم، لا يُبالي في أي كبدٍ استقر، ولا غرو أن القانون، وهو عاصم المروءات، قد أحاط هذه الفئة بسياج الحماية اللفظية والمعنوية، ليكون من تسوّل له لسانه أن يزري بهم، واقعًا تحت طائلة الجزاء، إذ كيف يُكرّم الجسد بالدواء ويُهان من يصفه؟ وكيف تُطلب الحياة ممن تُنتزع منه كرامته؟

“التهديد” – في عرف اللغة وأصول البيان – هو النذير المبطن، والوعيد الذي يُلقى في روع المخاطب، ليقضّ مضجعه، ويغتال سكينته، ويُسدل على حاضره ستارًا من الوجل والترقّب. وهو – من حيث المبنى والمعنى – إلقاءٌ لظلال الخوف في النفس، بعبارةٍ جازمة، أو إشارةٍ خبيثة، أو صمتٍ موارب تنطق به العيون قبل الألسن. ولما كان التهديد على هذا النحو من الخطورة، فقد أولته الفطرة الإنسانية، قبل النصوص الوضعية، بالغ الاعتبار، إذ لا يُبتغى العدل في بيئةٍ مسكونة بالرهبة، ولا يُرتجى قرارٌ سليم ممن تزلزلت دواخله تحت سياط الوعيد.

وإذ إن التهديد قد يتخذ صورًا شتى، فهو لا يقتصر على الألفاظ النابية أو التصريحات العدائية، بل يتعداها إلى التلميح الخبيث، والحركات المقصودة، والرسائل الغامضة، وكل ما يُفهم منه الإعداد لشرٍّ وشيك. ولئن كان ذلك جرمًا في عمومه، فإنه – حين يُوجّه إلى مقدمي الرعاية الطبية – يصبح خيانةً مزدوجة: خيانةً للإنسان في محنته، وخيانةً للضمير الذي أقسم صاحبه أن لا يخون الجسد حين يئن، ولا النفس حين تضطرب. إذ كيف يُنتظر من طبيبٍ أن يَبتّ في مصير مريضٍ، وهو في ذاته مطاردٌ بوعد الشر، مهددٌ في بدنه أو عرضه أو أهله؟! وأتُراه يسعفه الفكر، ويصفو له الاجتهاد، في بيئةٍ تتربص به كما يتربص الجلاد بضحاياه؟

ولما كان الطعن في ظهر الطبيب لا يختلف، في نتائجه، عن الطعن في صدر المريض، فقد جاء تجريم التهديد الموجَّه إلى الأطباء والممرضين والفنيين – أثناء أداء رسالتهم أو بمناسبتها – ضرورةً تمليها العدالة، قبل أن تُنادي بها القوانين. إذ لا غرو أنّ الأمن النفسي شرطٌ لازم لأداء الواجب الطبي على وجهه الأكمل، ولا مهنةَ يمكن أن تنهض – بالدرجة الأولى – إن لم تكن محاطةً بسياجٍ من الهيبة، ومحصّنةً ضد الابتزاز، ومجرّدة من كل صور الإكراه.

ولما كانت صور التهديد تتفاوت ما بين التصريح والتلميح، والقول والفعل، والكتابة والرمز، فإن الفقه الجنائي – بحكمته المتراكمة – لم يربط التهديد بنمطٍ واحد، بل نظر إلى الأثر قبل الوسيلة، وإلى القصد قبل الصورة. فقد يكون التهديد في عبارةٍ عابرة كالسُّمّ في العسل، أو في نظرةٍ خاطفة كحد السيف، أو في رسالةٍ موغلة في الإيحاء كأنها طعنةٌ مكتوبة. وقد يُترجم بتعقبٍ للأهل، أو ترصّدٍ في الطرقات، أو منشوراتٍ خبيثة تُلمّح ولا تُصرّح، ولكنها – في ميزان العدالة – أبلغ من التصريح.

ومن هنا، فإن التهديد الموجَّه إلى الطواقم الطبية لا يُعد اعتداءً فرديًا فحسب، بل هو إضرارٌ بالسلم المهني، ومساسٌ بجوهر المهنة التي ما انفكت تؤدي رسالتها في أحلك الظروف، وأشد الأوقات. إن الاعتداء على الأمان المهني أشبه ما يكون بكسر أجنحة البلبل، ثم مطالبته بالطيران، أو بإغراق النور في ظلمات الخوف، ثم انتظار أن يشعّ ويضيء.

فهل يُرجى من طبيبٍ أن يُنقذ الأرواح، في حين أن نفسه تنوء بوعيدٍ يتربص به كظلٍّ لا يفارقه؟ وهل تُبنى الثقة على أرضٍ ملغومة؟! لا جرم إذًا أن يكون تجريم التهديد، وتشديد العقوبة عليه، ضرورةً تُقرّها القوانين، وتستوجبها العدالة، وتحمي بها الإنسانية حصونها الأخيرة.

2- النتيجة

 في جريمة الاعتداء على مقدمي الخدمة الطبية لا تُقاس – كما في غيرها من الجرائم التقليدية – بجرحٍ ظاهر أو أثرٍ دامٍ يُستدل عليه بالحسّ، بل هي أعمق غورًا، وأخفى وقعًا، تستتر أحيانًا خلف ستارٍ من الصمت، وتُبطن في النفس ما لا يراه الرقيب ولا يُقوّمه السامع.

إذ إنّ هذه النتيجة لا تتمثل في الأذى الجسدي وحده، وإنما في اهتزاز الجدار النفسي الذي يستند إليه الطبيب أو الممرض في أداء رسالته، وفي تفكك الثقة التي يعلّق بها آماله في اتخاذ القرار الطبي، بل وقد تصل النتيجة إلى ما هو أبعد: من امتناع عن العلاج، إلى تراجعٍ عن تقديم الرعاية، أو اتخاذ قرارات خاطئة تحت وطأة الخوف أو الحذر أو الارتباك.

ولا غرو، فإنّ العامل في الحقل الطبي، إنما يُمارس مهنته في بيئةٍ يُفترض فيها السكينة والأمان، فإن زُلزلت تلك البيئة بإشارةٍ غامضة، أو بقولٍ مريب، أو بتلميحٍ ينذر بالخطر، فإنّ النتيجة المتحققة هي انتهاك ذلك الحصن الأخلاقي والمجتمعي، الذي من دونه تنهار الثقة بين المريض وطبيبه، ويتحوّل المستشفى من مأوى للشفاء إلى ساحة قلقٍ ورهبة.

فالنتيجة إذًا، وإن بدت غير مرئية، إلا أنها ملموسة الأثر في سلوك الضحية، وفي قراراته، وفي أداء واجبه المهني. وقد تتحقق هذه النتيجة في صورة اضطراب نفسي مؤقت أو دائم، أو تغيير في نمط الممارسة الطبية، أو حتى في انسحاب العامل الطبي من موقف علاجي كان يوجب منه الحسم والسرعة، وهو ما يُعدّ من أخطر ما تُخلفه جرائم الاعتداء المعنوي من آثار.

3- علاقة السببية

في القانون الجنائي تُعدّ من الركائز الأساسية التي تُعنى بتحديد العلاقة بين الفعل الإجرامي والنتيجة المترتبة عليه، إذ إنّ من دون هذه العلاقة لا يمكن للجرم أن يُعتبر مسؤولًا قانونيًا، وتظل النتيجة محض صدفة لا دخل للفعل الإجرامي فيها. في مجال الحماية القانونية لمقدّمي الخدمة الطبية، تصبح علاقة السببية أكثر عمقًا وأشدّ تأثيرًا، بحيث لا يقتصر الأمر على الأذى الجسدي أو الاعتداء المباشر، بل يمتد إلى المساس بالثقة، وبإرادة الفاعل، وبتعطيل أداء الواجب المهني.

إذ إنّ الفعل الإجرامي – سواء أكان لفظًا تهديديًا، أو إيحاءً غير مباشر، أو حتى تحركات مريبة تثير في النفس القلق والخوف – يؤدي إلى نتيجة ذات طابع نفسي، هي تلك الرهبة التي تنغرس في قلب مقدّم الخدمة الطبية، مهددةً بقدرتها على أداء مهمتها النبيلة على أكمل وجه. ولا غرو أن كل تهديد أو اعتداء موجه إلى مقدمي الرعاية الصحية لا يظل محصورًا في الجرح الظاهر أو التأثير العضوي فقط، بل يمتد ليشمل التأثيرات النفسية والمعنوية، التي تعكر صفو البيئة الطبية الآمنة التي من المفترض أن تكون ملاذًا للشفاء والطمأنينة.

حيث إنّ العلاقة السببية هنا ليست مجرد توافر حادثة فاعلة ونتيجة مادية فحسب، بل تتشابك مع الظروف المحيطة، كأن يؤدي التهديد إلى انسحاب الطبيب من الموقف الطبي، أو يسبب له تراجعًا في اتخاذ القرار الصحيح، وهو ما يؤدي بدوره إلى التسبب في ضرر للمريض أو تأخير في العلاج. وبالتالي، فإنّ التهديد لا يُنتج نتيجة مباشرة على الشخص الذي تعرض له فقط، بل يمتد تأثيره إلى حياة مريض قد يتضرر من تراجع أداء مقدم الخدمة بسبب الخوف أو التهديد.

إذ كيف يكون الطبيب أو الممرض في موقف يستطيع فيه اتخاذ قرارات حاسمة في حياة المريض وهو نفسه مهدّدٌ في أمانه الشخصي؟ وكيف يمكن لمهنة الرحمة أن تزدهر في بيئةٍ تسودها الخوف والابتزاز المعنوي؟ لذلك، يُعدّ الفعل الإجرامي الموجه نحو مقدمي الرعاية الصحية بمثابة خرقٍ للجدار الحامي للمجتمع ككل، إذ إنّ نتيجة السببية لا تقتصر على التأثير الفردي على العامل الطبي، بل تمتد لتضرّ أيضًا بالصالح العام وبالأمن الصحي للمجتمع.

وفي حين أنّ العلاقة السببية تُعتبر أداة قانونية لربط الفعل بالنتيجة، فإنها في جريمة الاعتداء على مقدمي الخدمة الطبية تُصبح أكثر تعقيدًا، حيث لا تقتصر على تحديد الأثر المادي الظاهر، بل تبرز الآثار النفسية والمعنوية التي تتركها الجرائم المعنوية كأن تكون الرهبة أو الارتباك أو الشلل النفسي الذي يُعيق الأداء الطبي. ومن ثم، فإنّ العلاقة السببية هنا تُظهر بوضوح تأثير التهديد والإيذاء النفسي على تغيير نمط العمل الطبي، وهو ما يعكس عمق التأثيرات التي قد تطال سمعة المؤسسة الصحية أو موثوقية الخدمات الطبية.

إذ إنّ الحماية القانونية لمقدمي الخدمة الطبية، تظل ناقصة إن لم ترتكز على فهم عميق لهذه العلاقة بين الفعل المجرم ونتيجته، إذ من دون ضمانات لحمايتهم، تُفتح أبوابُ التحكم والخوف على مصراعيها، مما ينعكس سلبًا على المريض، المجتمع، وعلى مستقبل الخدمة الطبية بشكل عام.

  • الركن المعنوي

الركن المعنوي في جريمة الاعتداء على مقدمي الخدمة الطبية يتطلب توافر عنصرين أساسيين يشكلان جوهر الجريمة: العلم والإرادة، وهما الوعى الكامل بمدى جسامة الفعل ونتائجه المترتبة عليه، كما يعكسان قدرة الجاني على التحكم في تصرفاته واختيار قرار الاعتداء بوعي وقصد.

1:  العلم
إن العلم في هذا السياق لا يتعلق فقط بمعرفة الجاني بالفعل الإجرامي، بل يمتد ليشمل إدراكه للظروف والملابسات المحيطة به. ففي جريمة الاعتداء على مقدمي الخدمة الطبية، يجب على الجاني أن يكون عالمًا بمكانة المجني عليه كـ “مقدم خدمة طبية”، وأهمية هذا الشخص في الحفاظ على صحة المجتمع وسلامته. هذا العلم يعد بمثابة علامة واضحة على توافر القصد الجنائي، حيث إن الجاني يدرك تمامًا أن اعتداءه سيؤدي إلى تعطيل الخدمة الطبية المقدمة، بل ويهدد حياة المرضى أو سير العلاج. لا غرو، إذ إن الوعي بأن مثل هذا الفعل يضر ليس فقط بالفرد، بل بالأمن الصحي للمجتمع، يجعل الجريمة مبنية على القصد الجنائي العمد الذي يستهدف النيل من سير العمل الطبي.

2:  الإرادة
أما الإرادة، فهي تشير إلى النية الطوعية التي توجه الجاني نحو ارتكاب الاعتداء. فالإرادة لا تكفي وحدها بل لابد أن تتوجه نحو الفعل الإجرامي بتصميمٍ كامل، مما يعني أن الجاني قد اختار بوعي تام أن يوجه اعتداءه إلى العامل الطبي أثناء تأديته لعمله المهني. إن الإرادة هنا تشير إلى قصد الجاني إلحاق الأذى، سواء أكان ماديًا أم معنويًا، بهذا الشخص الذي يؤدي واجبًا إنسانيًا واجتماعيًا نبيلاً. ولئن كان الجاني قد اختار هذا الفعل بدافع الانتقام أو بسبب غضب لحظي أو رغبة في إلحاق الأذى، فإن إرادته تظل موجهة نحو الاعتداء على حق العامل الطبي في ممارسة عمله في بيئة آمنة.

إذ كيف يمكن تصوّر أن هذا الفعل لا يعكس نية متعمدة من الجاني؟ لا غرو في أن جريمة الاعتداء على مقدمي الخدمة الطبية تتوافر فيها القصد الجنائي العام، حيث يدرك الجاني تمامًا ما يرتكبه من فعل إجرامي ويدرك العواقب المترتبة عليه، فهو مستوعب لخطورة ما يقوم به من تعطيلٍ للواجبات الطبية. وفي الوقت نفسه، لا يتطلب الأمر القصد الجنائي الخاص، أي النية الخاصة الموجهة نحو إلحاق ضرر محدد أو تحقيق مصلحة شخصية، بل القصد الجنائي العام المتمثل في إرادة الجاني التعدي على العامل الطبي في أثناء تأديته لواجباته. فالجاني يقصد إلحاق الأذى بمهنة الطب نفسها، أكثر من أن يوجهه إلى المجني عليه بشكل شخصي.

وبذلك، نرى أن الجريمة قد توافرت فيها الأركان التقليدية للجريمة الجنائية، إذ أن القصد الجنائي العام هو المحرك الأساسي لهذه الجريمة، بينما القصد الجنائي الخاص لا يعد متطلبًا في هذه الحالة، لأن الفعل الإجرامي يتوجه نحو المهنة والوظيفة، أكثر من توجهه نحو الشخص المجني عليه نفسه.

ثالثا: عقوبة جريمة الاعتداء علي مقدمي الخدمة

“يعاقب بالحبس مدة لا تزيد على سنة أو بغرامة لا تجاوز عشرة آلاف جنيه…..”

نرى أن المشرع، في نص المادة 24 من قانون المسؤولية الطبية وسلامة المريض، قد أشار إلى العقوبة المقررة في حال الاعتداء على مقدمي الخدمة الطبية، والتي تتراوح بين الحبس لمدة لا تزيد على سنة أو غرامة لا تتجاوز عشرة آلاف جنيه. لكن، كما لاحظنا، لم يُفرد المشرع جمعًا بين عقوبتي الحبس والغرامة كأمر وجوبي، مما قد يؤدي إلى ضعف الردع في مواجهة هذه الجرائم. بل كان الأجدر بالمشرع أن يجمع بين العقوبتين، إذ أن الجمع بين الحبس والغرامة يعد أكثر فاعلية في ردع الجاني، خاصة وأن هذا النوع من الجرائم لا يُقارن بغيرها من الجرائم التقليدية، حيث إن التأثير النفسي والمعنوي الذي يُحدثه الاعتداء على مقدمي الخدمة الطبية قد يكون عميقًا ومؤثرًا بشكل أكبر من الأذى الجسدي.

لقد غفل المشرع عن إقرار نصوص قانونية تُحدِّد الظروف المشددة التي يمكن أن تزيد من شدة العقوبات في بعض الاعتداءات، رغم وجود ظروف عدة تتطلب هذا التشديد، وهي التي قد تساهم في زيادة الضرر الناجم عن الجريمة أو تعكس درجة عالية من الإصرار أو التخطيط المسبق لها.

أما فيما يخص الظروف المشددة التي يمكن اقتراحها، فنقترح ما يلي:

  1. الاعتداء في حالات معينة: مثل حالات الاعتداء على مقدمي الخدمة الطبية في حالات الطوارئ أو أثناء أداء العمل في أقسام حساسة مثل العناية المركزة أو أقسام الحروق، مما يجعل الجريمة أكثر خطرًا وأكثر تأثيرًا على سلامة المجتمع.

  2. تكرار الاعتداء: في حال كان الجاني قد ارتكب فعلًا مشابهًا في مواقف سابقة، يمكن أن تتضاعف العقوبة بشكل تدريجي، بناءً على سوابقه في الاعتداء على مقدمي الخدمة الطبية.

  3. الاعتداء على مقدمي الخدمة الطبيّة أثناء مواجهة الأزمات: مثل الاعتداء على العاملين في المستشفيات أثناء تفشي الأوبئة أو الحالات الطارئة، إذ يؤدي هذا إلى تعطيل العمل الطبي، وبالتالي تهديد حياة العديد من المرضى.

  4. الاعتداء على مقدمي الخدمة الطبيّة من فئات معينة: مثل الأطباء المتخصصين أو المستشارين الطبيين الذين يشرفون على الحالات الحرجة أو الذين يقدمون استشارات حاسمة، يمكن أن يتطلب وضع عقوبة مشددة في هذه الحالات، لما لها من تأثير مباشر على جودة العلاج.

أما بالنسبة للتدابير الاحترازية والعقوبات التكميلية التي يمكن أن تضاف في هذه الحالات، فهي تتضمن ما يلي:

  1. الحرمان من العلاج في المستشفيات الحكومية: يمكن فرض عقوبة بحرمان الجاني من العلاج في أي مستشفى حكومي طوال فترة العقوبة، وهو ما قد يشكل ردعًا قويًا للمعتدين.

  2. الحرمان من العلاج على نفقة الدولة: يجب أن يُحرم المعتدي من العلاج على نفقة الدولة، وهي عقوبة قد تكون مشددة بما أنها قد تؤثر بشكل مباشر في الشخص، لا سيما في حالات الحاجة للعلاج في المستقبل.

  3. إلغاء التراخيص والمزايا الخاصة بالتأمين الصحي: يمكن فرض عقوبة بإلغاء أي تراخيص أو مزايا خاصة بالتأمين الصحي للمعتدي، بحيث يُحرم من هذه الخدمات التي قد تكون جزءًا من حقوقه كـ “مواطن”، ما يضيف وزنًا إضافيًا للعقوبة ويعزز الردع.

  4. الحرمان من مزايا الخدمة العامة: مثل إلغاء أي امتيازات في مجال العمل العام أو اشتراكه في أي مشاريع علاجية أو صحية حكومية، لما له من تأثيرات عميقة في حياة المعتدي الاجتماعية والمهنية.

  5. التدابير الوقائية: قد تشمل تدابير أخرى مثل فرض تعليمات أو برامج توعية للجاني حول احترام حقوق مقدمي الخدمة الطبية، الأمر الذي يُساهم في تحقيق نوع من الردع والعلاج النفسي للجاني.

وفي الختام :

في زمنٍ تُعصف فيه الأمم بالعواصف، وتشتدُّ الكروب، وتتعالى أنين الجراح من أفواه الشعوب، يخرج من رحم الإنسانية جيشٌ نقيُّ الجلباب، طاهر السلاح، لا يحمل بندقيةً ولا يقرع طبولًا، بل يكتفي بقلبٍ نابضٍ بالرحمة، ويدٍ ترجف حبًّا لا رعبًا، وضميرٍ حيٍّ لا يعرف التراخي ولا الهروب. إنهم الجيش الأبيض، حماة الحياة، وسدنة الأمل، وأطباء الألم.

ما خاضوا معركةً إلا وانتصر فيها الإنسان، وما تراجعوا عن ساحةٍ إلا بعد أن تركوا خلفهم جرحًا مداوًى، ونبضًا مستقرًّا، ونفسًا أُعيد إليها حقُّها في التنفّس. في زمن الأوبئة، كانوا الخط الأول لا الدفاعي بل الإنساني، وفي الحروب، كانوا الساتر الذي يحمي الروح حين تنهار الجدران وتسقط القلاع.

هؤلاء الذين يواجهون الموت بأيدٍ ترتجفُ من فرط الإعياء، وعيونٍ سهرت حتى جفّت مآقيها، وجباهٍ انحنت لا ذلًّا بل تفقدًا وحنانًا، أولئك الذين يخرّون ساجدين على أرواحٍ بين الحياة والموت، لا يطلبون جزاءً ولا شكورًا، بل يُؤدّون رسالتهم في صمتٍ شامخ، وفي تواضعٍ مهيب.

فيا من بِيَدِه مشرطُ الشفاء، وقلبُ العطاء، وعقلُ الحكمة؛ يا من تحفر على الجراح بصبرك قبس النجاة، وتزرع في ثنايا الألم فسائل الرجاء، يا صاحب المعطف الأبيض، إنك أحقُّ بالإجلال من فارسٍ في ميدان، وأولى بالتكريم من قائدٍ في جيش، فأنت وحدك من يذود عن حياض الحياة لا بالدماء، بل بدموع التعب، وتنهيدة المسؤولية.

ألا فليعلُ صوت العدالة قائلًا: حُرمة الطبيب كحُرمة المعبد، وكرامته ككرامة الراية، لا يُمسُّ بسوء، ولا يُهان، ولا يُترك وحيدًا أمام عواصف الإهمال أو الجحود. فإن حماية الطبيب حمايةٌ للوطن، وإن احترامه احترامٌ للضمير، وإن إنصافه إنصافٌ للحضارة.

يا جيش الرحمة، يا حراسَ الحياة، أنتم شرفنا حين تتهاوى القيم، وأنتم سُورُنا حين تنهار الحصون. فسلامٌ عليكم ما بقي في القلب نبض، وما ارتفعت في السماء دعوةُ ملهوف، وما نادى جرحٌ باسم طبيب.

ويا كلُّ صيدليٍّ يقفُ على ثغر الدواء، حارسًا لعافية الناس، وسادنًا لحكمة العلاج، إليك تنحني الأقلام إجلالًا، وتخشع العبارات أمام سمو رسالتك.

يا من تسهرُ على تركيب الشفاء كما يسهر الفقيه على نصوص العدل، يا من تقرأ في وصفات الأطباء أسرار الأمل، وتسكبها في قوارير الرجاء، يا من لا تكتفي بإعطاء الدواء، بل تُعطي الطمأنينة، وتبثّ اليقين، وتُعيد للمريض ثقةً ضلّت بين وجعٍ وأسئلةٍ لا تنتهي.

ما أنتَ ببائعِ دواء، بل رُكنٌ علميٌّ وإنسانيٌّ شامخ، لا تقلُّ جهادًا عن من وقف في غرفة العمليات، ولا يقلُّ قدرك عن من وضع السماعة على صدر الألم.
أنتَ صاحبُ الميزان الصامت، الذي يزن بضميره كلّ جرعة، ويُحسن التقدير حين تختلط الأعراض، ويُنير درب الحائر إذا التبست عليه أسماء العقاقير.

ويا كلُّ معاونٍ في صيدليةٍ أو مستشفى، من مساعدٍ ينهض مع الفجر ليُنظّف موضعًا يُحتضن فيه مريض، إلى موظف يُنظّم المواعيد، إلى عاملِ تعقيمٍ يقف في ظلّ الجهد دون ضوء، إلى كلّ من وهب نفسه لخدمة المريض وإن بدا اسمه بعيدًا عن أضواء التكريم، إنكم جميعًا أعمدة لا تُرى ولكن بها يقوم صرح الشفاء، وصوتُكم قد لا يُسمع، لكنّ أثرَكم باقٍ في كل نبضةٍ عادت، وكل جرحٍ التأم.

لكم جميعًا، يا من تلبسون المعاطف البيضاء، أو الأردية البسيطة، أو حتى ثياب العمل الثقيلة، يا من تذودون عن الحياة من وراء الكواليس، سلامٌ يليق بكم، وشكرٌ يعلو على كل خطاب، وعرفانٌ لن يُفيه المقال حقَّه، لكنه يُحاول أن يُقبّل جُهدَكم بحروفٍ نُزِفت من وجدانٍ صادق.

وإلى كل يدٍ امتدّت تُمسِك بمِقشّة لا بمشرط، وإلى كل عينٍ سهرت على نظافة ردهةٍ لا على قراءة الأشعة، وإلى كلّ نفسٍ تنفست العون لا الرياء، وإلى من نذروا أنفسهم لخدمة الإنسان لا بحثًا عن تصفيق، بل امتثالًا لنداء الضمير، وواجب المهنة، أكتبُ هذه الكلمات لا شكرًا عابرًا، بل تحية خالدة لكل من كان في المؤسسة الطبية جنديًّا مجهولًا أو عَلَمًا مرفوعًا.

يا عمّال النظافة الذين يطهرون الأرض لتكون مهادًا للشفاء، أنتم أولُ من يلامس الجرح بصمت، وأصدقُ من عبّر عن طهارة الرسالة. كل ذرّة غبار تزيلونها، هي في ميزانكم صدقة، وكل بقعة تُطهّرونها، هي درعٌ واقٍ في معركة الحياة.

ويا طاقم التمريض، أيها الساهرون على راحة المريض، من يُمسك بيده، ومن يُخفّف أنينه، ومن يُبدّل له الضماد كما يُبدّل القدر مساراته، يا من تُمسون ولا تنامون، تُصبحون ولا تشتكون، لكم في أعناقنا جميل لا يُردّ، وعطاء لا يُنسى، أنتم رحماء الأرض الذين يتعلّق بهم قلب كل مريض قبل أن يتعلّق بأنبوب العلاج.

ويا كل موظف إداري، ويا منسق، ويا عامل أمن، ويا سائق إسعاف، ويا من يحضر الدواء ويعدّ الطعام ويُنظم الدور ويبتسم في وجه الزائر، يا من تعملون في صمت، وتخدمون في ظل، دون بوقٍ ولا راية، اعلموا أنكم جميعًا خيطٌ في نسيج المعجزة، وركنٌ من أركان السلامة، وسندٌ لهذا الجسد المتعب الذي يُسمّى “المريض”.

إن المستشفى لا يقوم على الأطباء وحدهم، بل على قلوبٍ اجتمعت من كل موقع، فكوّنت سبيكةً من العون، وسلسلةً من الجهود، إذا انقطع منها حلقة، اهتزّت كرامة الطبّ، وتعثّر المريض في درب العافية.

فشكرًا لكم جميعًا، شكرًا من قلب الأمة، شكرًا من عين أمٍ تبكي على طفلها، ومن ظهر أبٍ أُنهكَه التعب، ومن شيخٍ يسترجع قوّته، ومن امرأةٍ استردّت ابتسامتها، ومن كل مَن عاد إلى الحياة بفضلكم بعد أن ظنّها ودّعته.

إنكم لستم فقط عُمّالًا في مؤسسة، بل أنتم رُسُلُ الرحمة، وفرسانُ الإنسانية، وركائز الوطن. فلكم منا السلامُ إذا سكن الناسُ، والدعاءُ إذا غفل العالم، والوفاءُ في زمنٍ قلّ فيه الوفاء.

 

 

 

 

 

 

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى