قانون

المشاجرة في القانون الجنائي

بقلم: د. يوسف الديب

 

إنّ كلمة المشاجرة ليست مجرد لفظ عابر في ساحة القضاء بل هي مفتاح قد يغير مجرى العدالة ويعيد تشكيل الوصف القانوني للجريمة من أساسه فما انفك القضاء الجنائي يتعامل مع هذه الكلمة بوصفها عنصرا جوهريا في تكييف الفعل الإجرامي إذ تلامس جوهر النية المبيتة وتكشف عن الغور العميق بين القتل العمد المقرون بسبق الإصرار والقتل الذي يقع تحت وطأة انفعال جامح أو دفاع يفرضه الخطر الداهم فهي الحد الفاصل بين الجريمة المدبرة والجريمة التي انفجرت لحظة احتدام العواطف وهي الحاجز الذي يميز بين الضربة التي سبقتها نية مبيتة والعنف الذي لم يكن إلا انعكاسا لحالة من الاضطراب النفسي اللحظي.

وما كان سبق الإصرار يوما إلا ثمرة عقل هادئ فكر في الجريمة وتهيأ لها بعقل بارد لا تعصف به الانفعالات ولا تهيمن عليه المشاعر أما حين تثبت المشاجرة فإن الأمر يأخذ منحى آخر إذ يصبح الجاني أقرب إلى شخص دفعه الغضب إلى فعل ما لم يكن ليقدم عليه لو ترك لعقله مهلة للتروي فإن كانت الجريمة التي تقع عقب خصومة حادة تعد في ميزان القضاء غير متماثلة مع تلك التي نفذت بدم بارد فمن الأولى أن يعاد النظر في أفعال الجناة الذين وجدوا أنفسهم في معمعة لا مخرج منها إلا بمواجهة محتومة.

أترى من وقف في شجار لا يعلم كيف ابتدأه ثم وجد نفسه في قلبه يواجه هجمة شرسة قد أعدت له سلفا هل يستوي مع من ترصد لخصمه في الظلام متربصا له عند عودته لينقض عليه كوحش جائع لا يملك من الرحمة نصيبا وكيف يستوي من خاض معركة في لحظة احتدام كان فيها بين مد وجزر بين دفاع وهجوم مع من كان قابعا خلف جدار يراقب خطوات فريسته حتى أوقعها في شرك محكم.

وإن القضاء حين يتناول المشاجرة إنما يتناول مفهوما لا يقف عند حد التلاسن ولا عند مناوشات عابرة بل يتطلب تحليلا دقيقا لطبيعة النزاع فليس كل صراع يصلح ليكون مشاجرة تؤثر على الوصف الجنائي بل لابد أن يكون ذا حدة وعنف يفقد الإنسان معه زمام نفسه كما أن تفاصيل المشاجرة تلعب دورا محوريا في تحديد المآل القانوني للجريمة فمشاجرة بين رجلين غير متكافئين قوة لا يمكن مقارنتها بمشاجرة بين خصمين متعادلين في القوة والعتاد والمشاجرة التي اندلعت فجأة ليست كالمشاجرة التي سبقتها تهديدات وتوعد وتحفز نفسي سابق وإن كان لكل جريمة بصمتها التي تميزها فإن المشاجرة هي تلك البصمة التي قد تنقل الفعل من خانة الإجرام المحض إلى دائرة التأثر والانفعال الإنساني الذي قد يكون مبررا ولو جزئيا لما وقع من أفعال.

أفلا ترى أن المشاجرة أشبه برياح عاتية حملت معها شرارة فاشتعلت نارا لا يعلم صاحبها كيف امتدت ولا كيف أحرقت ما أحرقت وأن سبق الإصرار أقرب إلى نار أضرمت عن قصد وجمعت لها الحطب حتى استوى جمرها واتقد أو ليس من العدل أن ينظر إلى الفارق بين من طوحت به العاصفة في دوامة الغضب ومن هيأ للنار أجواء الاشتعال وانتظر لحظة الحريق.

وحيث إنّ القانون الجنائي في تشريعات جلّ الدول يفرق بين القتل العمد الذي ينبثق عن عقل متدبر سبق أن بيت نيته وبين القتل الذي يأتي في غمرة نزاع محتدم فإنّ ثبوت المشاجرة بين الجاني والمجني عليه قبيل وقوع الجريمة يفتح باب الشك في مدى توافر القصد الجرمي المسبق أترى ذلك إلا شاهدا على أن الإنسان مهما بلغ من رباطة الجأش قد تدفعه اللحظة العاصفة إلى فعل لا يملك زمام نفسه فيه كما تدفع الرياح العاتية السفينة في بحر لجي يغشاه موج من فوقه موج فإذا كانت الجريمة العمدية وليدة تخطيط دقيق وتدبر هادئ فإن الجريمة التي تنشأ عن مشاجرة أقرب ما تكون إلى انفعال لم يملك صاحبه كبح جماحه كالسيل الهادر الذي يجرف كل ما يعترض طريقه.

وإذا كان القانون يشترط في سبق الإصرار أن يكون الفاعل قد تروى في جريمته ورتب لها وتهيأ لاقترافها بروية وسكون فإن وقوع المشاجرة قبل الجريمة يلقي بظلال كثيفة من الشك على هذا التروي إذ كيف لعقل أن يتدبر مكيدة وهو وسط عاصفة غضب لا تبقي على المنطق ولا تذر من الاتزان أثرا أو ليس الغضب سكر النفوس كما أن الشراب سكر العقول أفترى من اشتد به الغضب حتى أعمى بصيرته وعطل فكره متساويا مع من جلس متربصا يتدبر كيف يفتك بخصمه متى وأين وبأي وسيلة.

إن القضاء حين يتعامل مع مثل هذه الحالات لا يقف عند ظاهر الأمور بل يتغلغل في أعماق الحدث ليبحث عن الفاصل الدقيق بين الجريمة المدبرة والجريمة التي أفرزها الغضب الطاغي فليس كل قاتل قاتلا بسبق الإصرار وليس كل من أزهق روحا متعطشا للدماء بل إن كثيرا من الجرائم تولد في لحظات كان فيها الجاني كمن ألقى به التيار في لجة لا قرار لها لا يرى طريقا للخروج إلا بفعل كان أشبه بردة فعل غريزية لا عقلية أفليس من الحكمة أن يفرق بين من جنى بيد باردة ممعنة في القسوة وبين من امتدت يده في لحظة لم يكن فيها إلا كالسفينة التي ألقت بها العاصفة فوق صخرة عاتية فتهشمت شراعها واندفع حطامها في كل اتجاه.

ولما كان سبق الإصرار هو ركن ركين في القتل العمد فإنه لا يقوم إلا متى ثبت أن الجاني ران على قلبه الإجرام وتأصلت لديه النية الآثمة قبل وقوع الفعل بوقت كاف يتيح له التأمل والتدبر بعيدا عن فورات الغضب فإذا ثبت أن الجريمة جاءت عقب مشاجرة فإن ذلك قد يضعف هذا الركن ويجعل الفعل أقرب إلى القتل الواقع تحت سطوة الانفعال حيث النفس حينها أشبه بكفة الميزان المضطربة لا تستقر إلا بعد فوات الأوان فالعقل ساعة الغضب كالمرآة المهشمة لا تعكس الصورة على حقيقتها بل تتشظى فيها المعاني وتضيع موازين الإدراك أفلا ترى أن الغضب حين يتملك الإنسان يجعله كالذي يتخبطه الشيطان من المس فيتحرك بلا هدى ويضرب بلا روية

إن سبق الإصرار هو قرار ينبثق من عقل هادئ خال من الاضطراب متحرر من سلطان الانفعال فهو كالنار التي تنضج على مهل لا كهبة اللهب التي تنطلق فجأة وتحرق ما حولها بغير وعي فإن كان الجاني في حالة مشاجرة حيث العواطف مضطربة والنفس ثائرة فإن القول بأنه قد تدبر جريمته ورتب لها بعقل بارد ينافي منطق الطبيعة البشرية وهل يستوي من جلس متأملا خطته في ظلام الليل كالصياد الماهر مع من تلاطمت به الأمواج وسط عاصفة هوجاء فلم يدرك إلى أين تقوده أفعاله.

فإذا كانت المشاجرة تفقد المرء القدرة على التحليل والتفكير السليم كما تفقد العاصفة راكب البحر القدرة على توجيه دفته فكيف يستقيم القول بأنه أقدم على الجريمة وهو في حال كهذه بسبق إصرار وتأمل وهل يستوي القاتل الذي خطط لجرمه بحساب دقيق كمن استُفز حتى بلغ به الغضب مبلغا جعله يفعل ما لا يعي وهل يستوي من أضرم النار عامدا متعمدا بمن سقطت منه شعلة فأحرقت ما حوله دون قصد أو تدبير.

وفي حين أن الدفاع الشرعي يقتضي وجود خطر محدق لا يدفع إلا بالقوة فإن المشاجرة إن ثبتت قد تلقي بظلال الشك حول ما إذا كان الجاني قد وجد نفسه مضطرا للرد على تهديد جسيم يهدد حياته أو سلامته البدنية فتكون ضربته بمثابة السيف الذي لا يستل إلا لرد عدوان داهم لا لمجرد البطش والاعتداء أفلا ترى أن ذلك أشبه بمن وجد نفسه بين فكي أسد كاسر فاضطر إلى طعنه للخلاص فليس من العدل أن يتساوى من كان في موقف المستضعف الذي يدفع عن نفسه البلاء بمن تربص وانتظر ثم أجهز على خصمه بدم بارد فإن الإنسان حين يجد نفسه محاصرا بالخطر يصبح كالطائر الذي يرفرف بجناحيه في قفص مغلق لا يجد منفذا للخلاص إلا أن يكسر القيد.

وكما أن الجندي في ساحة الحرب لا يتردد في صد ضربة العدو الذي يباغته فإن المرء في لحظة التهديد الداهم لا يملك ترف التفكير الهادئ بل يتصرف بفطرته الغريزية التي تدفعه لحماية نفسه دون أن يكون في ذهنه ترتيب أو تخطيط وهل كان موسى عليه السلام حين وكز الرجل فقضى عليه قاتلا متعمدا أم أنه تحرك بدافع الفطرة حين رأى المظلوم يستغيث به فكانت ضربته فوق ما قدّر وارتقب فإن المشاجرة كثيرا ما تكون لحظة تموج فيها النفوس بأعنف الانفعالات فيصبح التمييز بين الاعتداء والدفاع ضربا من المحال.

وهل يُلام من استل سيفه حين رأى الخطر يدنو منه كما يدنو الليل الحالك حتى غشيه فلا يدري أكان ضاربا أم مضروبا إن العقل ساعة الغضب لا يكون ربان السفينة بل تكون الرياح الهوجاء هي التي تسيّرها ولا يكلف المرء فوق طاقته أن يزن أفعاله بميزان الفلاسفة وهو في قلب معركة تجعله بين نارين فإما أن يسدد الضربة وإما أن يكون هو من يتلقى الطعنة.

ولا غرو أن دور القاضي في تحليل المشاجرة يبقى محوريًا فلا يعد كل شجار مبررًا لإعادة تكييف الجريمة إلا إذا بلغ من الحدة ما يفقد الجاني سيطرته على أفعاله أو وضعه في موقف لا يملك فيه غير الدفاع عن نفسه وكما أن الرياح لا تحرك الجبال فإن مجرد الخصومة العابرة لا تنزل الفعل منزلة القتل الانفعالي أو الدفاع الشرعي إلا إذا اقترنت بظروف تجعل الغضب أشبه بالنار التي تأكل نفسها إن لم تجد ما تأكله وإن القاضي حين يتصدى لمثل هذه القضايا يكون أشبه بالطبيب الذي يضع مشرطه على موضع الداء فلا يبتر عضوًا سليمًا ولا يترك العلة تستشري في الجسد فإذا ما ثبت أن الجاني كان أسير لحظةٍ لم تترك له فسحةً للتروي وأن المشاجرة قد استحالت إلى معركة فرضت عليه ردة فعلٍ غريزيةً كان لزامًا أن يعاد النظر في تكييف الجريمة لأن القانون لا يقيم العقوبة على أساس العاطفة المجردة وإنما على معايير دقيقة تأخذ في الاعتبار ما اعترى النفس من اضطراب وما ران على العقل من ظلام

أفلا ترى أن المرء إذا ما دُفع إلى حافة الهاوية لا يملك إلا أن يتمسك بأقرب شيء يقيه السقوط ولو كان ذلك بدفع من أمامه خشية أن يكون هو الضحية وإذا كان التشريع قد راعى في مواضع كثيرة أثر الدوافع والانفعالات في تخفيف العقوبة فإن إغفال المشاجرة عند بحث القصد الجنائي أشبه بمن ينظر إلى أمواج البحر دون أن يدرك ما يعصف بالقاع من تيارات خفية فتكون النتيجة حكمًا قد يثقل كاهل المتهم بحملٍ لم يكن هو البادئ فيه ولا الساعي إليه.

ولما كان العدل لا يتحقق إلا بالنظر إلى ملابسات كل واقعةٍ بميزان الدقة فإن القاضي ملزمٌ بأن يغوص إلى عمق الحقيقة وألا يكتفي بظاهر الأمور إذ ليست كل يد امتدت بالضرب آثمةً وليست كل ضربةٍ جاءت قاتلةً عمدًا فقد يكون الفعل في ظاهره عدوانًا وهو في باطنه دفاعٌ مشروع وقد يكون القاتل في موقف المدافع والمجني عليه هو البادئ بالعدوان ولكن ما أكثر ما تخفيه المشاجرات من أسرارٍ لا يدركها إلا من وضع العدالة نصب عينيه فحكم بما أملته عليه وقائع القضية لا بما توحي به الألفاظ المجردة.

وفي الختام لا يسعني إلا أن أؤكد أن الكلمة في ساحة القضاء ليست مجرد أصواتٍ تتردد في أروقة المحاكم ولا حروفٍ تُسطر على أوراق المرافعات بل هي أوزانٌ تُلقى في كفّة الميزان فتميل بها العدالة حيث ينبغي لها أن تستقر فكم من متهمٍ أجهزت عليه كلمةٌ زلّ بها لسان الشاهد فكانت عليه وبالًا وكم من بريءٍ انتُزع من بين براثن العقوبة حين نُطقت في حقه عبارةٌ كانت كالماء الزلال يُطفئ أوار الظلم وإنّ من أدقّ ما ينبغي على القضاة والمحامين وأهل القانون أن يعوه أن الألفاظ ليست مجرد أدواتٍ للبيان وإنما هي مفاتيحٌ تُفتح بها أبواب الإنصاف أو تُغلق بها نوافذ الحق فإن هي وُضعت في غير موضعها اضطرب ميزان العدل كما يضطرب السفينة الماخرة في بحرٍ لُجّيٍ يغشاه موجٌ من فوقه موج.

وحيث إن القضاء مرآةٌ تنعكس عليها صورة الحقيقة فلا يجوز أن تكون اللغة التي يُصاغ بها الحكم إلا مرآةً نقيّةً لا تشوبها غشاوةُ الغموض ولا يكدرها التزيد والمبالغة فإنّ القلم الذي يخطّ به القاضي كلماته ليس مجرد أداة كتابة بل هو سيفٌ من سيوف العدالة إما أن يقطع به عروق الجور أو أن يكون معولًا يهدم به صرح الإنصاف.

وإن من الألفاظ ما يكون في ميزان القضاء أثقل من الجبال الراسيات فتُرفع بها أحكامٌ وتُهدم بها قراراتٌ وتُصان بها أرواحٌ وتُزهق بها أنفسٌ وإن من الكلمات ما يكون كالنور يخترق الظلمة فتتجلى به الحقائق ومنها ما يكون كالدخان يحجب الرؤية ويُلبس الواضح بالغموض أفلا ترى أن الله جل وعلا قال وما يلفظ من قولٍ إلا لديه رقيبٌ عتيد فإنّ القضاء كذلك يرصد كل لفظةٍ تُقال ويزنها بميزان الحق فإن كانت في موضعها أزهرت بها ساحات العدالة وإن زاغت عن مسارها اختلّ بها ميزان الحكم فكانت كسهمٍ طائشٍ يُصيب بريئًا أو يُفلت مجرمًا فالكلمة في محراب العدالة ليست نقشًا على ورق بل هي توقيعٌ يُسجّل في صحائف الحقوق ويرسم المصائر إلى الأبد.

إن القضاء ساحة يُبنى فيها المصير على ميزان الكلمات فكلمة واحدة قد تكون حدًّا فاصلاً بين الحرية والقيد بين البراءة والإدانة بين العدالة والظلم فكم من متهمٍ أُدين بعبارة زائغة وكم من بريءٍ استعاد حقه بحجةٍ قيلت في موضعها لذا فإن من أعظم ما ينبغي أن يُعنى به في محراب العدالة هو التدقيق في الألفاظ التي تُستخدم في وصف الوقائع فلا يُلقى بالكلمات جزافًا ولا تُساق العبارات على غير هدى بل يكون كل لفظٍ محسوبًا بميزان الدقة والعدل فلا يبالغ في وصف الجرم فيُهوَّل مما هو أدنى من حقيقته ولا يُهوَّن من خطبٍ جسيمٍ يستوجب الحزم والردع ،وحيث إن القضاء يُبنى على وضوح الحجج وقوة البراهين فإنه لا يصح أن تكون اللغة التي يُعبَّر بها عن الوقائع لغةً متراخيةً تستعير الألفاظ بلا تدقيق أو تستبدل بالمصطلح القانوني الصحيح تعبيرًا موهمًا قد ينحرف بالوصف عن مراده أفلا ترى أن البيان في القضاء هو مفتاح الحكم وأن وضوح العبارة هو السبيل الأقوم للوصول إلى الحق فكما أن القاضي يزن الأدلة بميزان العدل فكذلك ينبغي أن يزن الكلمات بميزان الحق فلا تزيد ولا تنقص عن مقتضى الحقيقة.

وإنّ من أبشع صور الظلم أن تُستخدم اللغة في غير موضعها فيُرمى المتهم بما ليس فيه أو يُنفى عن الجاني ما ثبتت به البينة وإنّ من أقوم السبل إلى صون العدالة أن تكون الألفاظ محكمةً في التعبير دقيقةً في الدلالة صريحةً في المراد فإن القضاء لا يحتمل الألغاز ولا يسوغ فيه اللبس وإنما هو مقامٌ يُراد به جلاء الحقيقة وإقامة العدل على أسسٍ لا تميد ولا تتبدل ،وحيث إن الألفاظ القانونية ليست مجرد أوصاف لغوية تُساق على عواهنها، بل هي أدوات تقنين وإثبات تُرسم بها معالم الحقيقة وتُحدد بها المسؤولية، فإنه يتعين على المحامين والقضاة على السواء أن يكونوا في اختيار كلماتهم على غاية من الدقة والاتزان، فلا يُضخَّم اللفظ فيُحمل أكثر مما يحتمل، ولا يُستخفّ به فيُفرغ من مضمونه، إذ إن الكلمة في محراب العدالة ليست زخرفًا إنشائيًا، وإنما هي ميزانٌ تُقام به الحُجج، ويُفصل به بين الحق والباطل.

فلا يجوز أن يُوصف شجار عابر بأنه معركة دامية، فينحرف التكييف القانوني عن موضعه، ولا أن يُهوّن من وطأة النزاعات العنيفة بجعلها مجرد تلاسن بسيط، فتضيع معالم الجريمة بين التساهل والتشديد. وإن المحكمة ليست ساحة للمبالغة الخطابية ولا للحشو اللفظي، بل هي ميدان تُوزن فيه الكلمات كما تُوزن الأدلة والبراهين، فكلمةٌ زائدة قد ترفع الجرم إلى مرتبةٍ أشدّ مما يقتضيه الفعل، وكلمةٌ ناقصة قد تهوّن من أمرٍ جلل، فتفرّق بين مجرمٍ يستحق العقاب ومتهمٍ يُدان بغير حق.

وإذا كان القاضي يستنطق الأوراق ليستجلي منها الحقيقة، فإن اللغة التي تُصاغ بها الدفوع والمرافعات يجب أن تكون أداةً للوضوح لا للتمويه، ووسيلةً لإظهار العدل لا للعبث بمصائر الناس. فالكلمة التي يُنطق بها في ساحات القضاء ليست مجرد صوتٍ يزول، بل هي قيدٌ يُفرض، أو حريةٌ تُستعاد، أو عدالةٌ تُقام، وإنه لمن أوجب الواجبات أن يكون لسان القانون صادقًا في توصيفه، دقيقًا في تعبيره، نزيهًا عن الإفراط والتفريط، لأن الحق إذا التُوي عليه بالألفاظ، انحرف عن جادته، وضلّ سبيله، وكان ذلك أدعى إلى ضياع الحقوق بدلًا من إحقاقها.

ولما كانت الحقيقة كثيرًا ما تختبئ خلف العبارات الملتبسة، وتتوارى بين سطور التأويل والتفسير، فقد صار لزامًا على القانونيين أن يدركوا خطورة الكلمة وأثرها، فهي ليست مجرد صوتٍ يتردد في قاعات المحاكم، ولا حبرٍ يجفّ على صفحات القوانين، بل هي مفتاحٌ قد يفتح أبواب العدالة أو يوصدها، وحدٌّ قد يفصل بين حقٍّ مهتوك وباطلٍ منتصر.

فكم من مظلومٍ كان مصيره مرهونًا بحرفٍ زِيد أو نُقص، وكم من متهمٍ بُنيت إدانته على كلمة أُسيء فهمها أو حُملت على غير معناها، فغدت قيودًا تُغلّ يديه، وهو منها براء كبراءة الذئب من دم ابن يعقوب. أفلا ترى أن كلمة واحدة قد ترفع عن بريءٍ سيف العقاب، أو تُحكم على متهمٍ بجريرة لم يرتكبها؟ وإنه لعجبٌ أن يكون الفارق بين البراءة والإدانة، بين الحرية والقيد، بين الحياة والموت، هو لفظٌ يُنطق في لحظة، ولكنه يظل محفورًا في سجلّ العدالة، لا يُمحى أثره، ولا يُغفل وزنه.

ولا غرو أن قال الله تعالى: “ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد”، فإن كان هذا في شأن كل كلمةٍ ينطق بها الإنسان، أفلا يكون للقضاء من ذلك الحظّ الأوفى، وهو الذي تُبنى على ألفاظه مصائر الأفراد، وتتحدد به حقوق الناس وواجباتهم؟ إن الكلمات ليست هواءً يتبدد، ولا أصداءً تذروها الرياح، بل هي كالنقش في الحجر، يظل أثرها باقيًا ما بقي العدل قائمًا، وما بقيت العدالة ميزانًا توزن به الحقوق والواجبات.

أترى إذن أن العدل يمكن أن يستقيم بغير دقةٍ في اللفظ ووضوحٍ في التعبير، أم أنّ العدل لا يكون عدلًا إلا إذا استقام على ميزانٍ لا يميل مع الأهواء ولا ينحرف مع التأويلات؟ إنّ الكلمة في ساحة القضاء ليست مجرد صوتٍ يتردد، بل هي حكمٌ يُنفّذ، وميزانٌ تُوزن به الحقوق، فمن جار في اللفظ جار في العدل، ومن أساء التعبير أساء الحكم، وكما أن الموازين لا تُقاس إلا بميزانٍ دقيق، فكذلك الألفاظ لا ينبغي أن تُساق إلا على محكّ الضبط والإحكام.

أفليس الله تعالى قد قال: “ووضع الميزان ألا تطغوا في الميزان وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان”؟ فكما أن الميزان في القضاء لا يحيد عن العدل، فكذلك الميزان في الألفاظ لا يجوز أن يميل إلى الغلوّ أو التساهل، فإن غالى القاضي في الوصف حمّل الواقعة فوق ما تحتمل، وإن تساهل فيها جعلها أقل مما تستوجب، فتضيع الحقوق بين إفراطٍ في التشديد وتفريطٍ في التهوين، وكلاهما جورٌ لا يستقيم معه العدل، ولا تقوم به العدالة.

وإن الكلمة حين تُلقى في غير موضعها تكون كالسهم الذي يُطلق في غير هدفه، إما أن يصيب بريئًا، وإما أن يضلّ عن الجاني، فتمتزج الحقيقة بالباطل، ويختلط الصدق بالزيف، ويغدو القضاء مرآةً مشوشةً لا تعكس إلا ظلًّا للحقيقة، لا نورها الساطع. أفلا ترى إذن أن ميزان الألفاظ هو جزءٌ لا يتجزأ من ميزان العدالة، وأنّ من أهمل دقة العبارة كمن أخلّ بميزان الحق، فلا يستقيم له حكم، ولا تستقرّ به القضايا؟.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى