قانون

الوضع الظاهر بين المدني والمرافعات والجنائي: قراءة فقهية في مراتب الحماية واختبار العدل في مرآة الظاهر

بقلم: د. يوسف الديب

مقدمة:

في محراب العدالة، حيث تتقاطع أنفاس القانون بوهج الضمير، وتنتثر أنوار المبادئ على طرقات النصوص، يُشرّع العقل خيمته، وينتصب اللسان قِبلةً للفكر، ويقف القلم مُجاهدًا في سبيل بيانٍ لا يكلّ، وحقٍ لا يُهزم، وإن كان خافتَ الظهور. إنّ القانون، وإن بدا واحد الوجه، إلا أنه كالبحر، تتعدد أمواجه وتتنوع تياراته؛ فثمة قانونٌ مدنيٌ يحنو على المال، ويعانق المعاملات، وقانونٌ للإجراءات، يُنظّم الخصومة، ويزن خطوات العدالة بميزان الشكل والانضباط، ثم يُشرق في الأفق القانون الجنائي، سيفًا مسلولًا في يد العدالة، يضرب باسم المجتمع، ويذود عن أمنه وهيبته، ويُقيم الميزان بالقسط، ولا يجرمنه شنآن على أن لا يعدل. وفي هذا الخضمّ، تبرز نظرية “الوضع الظاهر”، كنجمة في ليلٍ قانونيٍّ مدلهم، تُشعّ بالثقة وتبشّر بالأمان، وتمنح حسن النية شرعية الموقف حين يخون الواقعُ صورته، ويكذب الباطن على الظاهر. هي نظريةٌ نشأت من رحم العدل لا من رحم الحيلة، واتكأت على استقرار المعاملات لا على هزال الحقيقة، وتسلّحت بقرينة الظاهر حين يعجز الباطن عن البوح، أو يتخفّى في عباءة التضليل. لكن… شتّان بين تطبيقٍ يرعى به القانون المدنيُّ ملكياتٍ تُشترى، وحقوقًا تُتبادل، وتوظيفٍ في المرافعات يُستصلح به الإجراء، ويُرمم به النقص في الشكل، وبين استخدامٍ جنائيّ يُذود به عن رقاب الناس، ويُستبقى به المتهم في دائرة البراءة، حين تكون الجناية ظاهرة، والقصد منها مضمحلًّا أو معدومًا. إنها مقارنة بين من يُعنى بالمال، ومن يُحاور الشكل، ومن يُباشر الروح والنية والمصير. هنا، تتفاوت درجات الحماية، وتتلون المقاصد، وتتنافر الغايات، فتغدو المقارنة بين هذه الفروع الثلاثة أشبه بموازنة بين زهر، وشوك، وسيف. فـالوضع الظاهر في المدني أشبه بمرآةٍ تعكس الطمأنينة في التعامل، وفي المرافعات كمحراثٍ يشق طريق الدعوى وسط الصخور الإجرائية، أما في الجنائي، فهو درعٌ من نور، يحمي البريء من خناجر الاتهام، ويعصم العقل من السقوط في مهاوي التأثيم المريب. هكذا، تتجلّى نظرية الوضع الظاهر لا بوصفها حيلة قانونية، بل باعتبارها ملاذًا إنسانيًّا، ومبدأً فقهياً عتيقًا، ينحاز فيه القانون للحق وإن لم يظهر، ويؤمن بأن الظاهر حين يكون حسنًا، ويستند إلى الثقة، فله من الاحترام ما يردّ به عادية الباطن وريبة الخفاء. فأيّ الفروع أحقُّ بهذا التاج؟ وأيّها أقدر على تسخير “الوضع الظاهر” لخدمة العدل الحق، لا العدل الصوري؟ ذاك سؤال المقارنة، وذاك ميدان النظر، وهنا يبدأ القلم رحلته في رسم ملامح هذه النظرية، في ضوء الفروع الثلاثة، وترجيح كفة القانون الجنائي حيث تُوزن الأرواح لا الأموال، وتُقاس النوايا لا الألفاظ، وتُصان الحريات لا العقود.

أولًا: الوضع الظاهر في القانون المدني:

حماية التعامل لا ضمير التعامل في رُبى القانون المدني، حيثُ العقود تتصافح، والنيات تتوارى خلف الألفاظ، والحقوق تتناقل كما تتناقل الرياحُ عبير الزهر بين الأكمام، تُطلّ علينا نظرية الوضع الظاهر، لا كمجرد قاعدة، بل ككفّةٍ تُرجّح حين تتساوى الموازين، وكحكمةٍ تُلملم شتات الثقة في زمنِ الريبة والشكوك. هنا، لا يُؤبَه بباطن النفوس، ولا يُنقّب في أعماق الضمائر، فــالقانون لا يضع مرآةً في صدر كل متعاقد، بل يزن الحاضر لا الغائب، والمُعلن لا المستور. إنه لا يبحث عن الحقيقة كما يبحث عنها القاضي الجنائي، بل يكتفي من القمر بالقشرة، ومن الشمس بالضوء، ما دامت المعاملة قد جرت في سوق الطمأنينة، لا في دهاليز الخداع. فالتاجر الذي يُمسك زمام البيع، وإن لم يكن مالكًا، والوكيل الذي يبرم الصفقة، وإن لم يكن موكَّلًا، كلّهم يحتالون على الواقع بمظهر، فيغدو الظاهرُ حجابًا على الحقيقة، لكنه حجابٌ شرعيٌ إذا اقترن بحسن النية، وتواطأ مع استقرار التعامل. وفي ذلك، لا يُلام الغير، ولا يُؤاخذ من وثق، إذ ليس عليه أن يُمشّط الذاكرة العقارية، أو يُنقّب في دهاليز التوكيلات، أو يفتّش في خبايا الصحائف. فالقانون، في هذا المقام، يكافئ الثقة، ويُعلي من شأن التعامل المستقر، ويرفع راية الأمان القانوني، حتى وإن انكسرت في الطريق عصا الحقيقة. لكن… أيُّ حقيقة هذه التي تُضحّى بها على مذبح الظاهر؟ وأيُّ عدالة تلك التي تقف مع الصورة لا مع الجوهر؟ إنها عدالة المصلحة، لا عدالة الضمير؛ عدالة تُعلي من سلطان التعامل، لا من صمت النوايا؛ عدالة تحرس المال، لا تحاسب القلوب. وهكذا، يغدو الوضع الظاهر في القانون المدني كالستار المنسوج من حرير الثقة، يُغطي عورات الواقع، ويستر خلل الحقيقة، ما دام الغير حسن النية، وما دام المجتمع لا يحتمل اهتزازًا في أرواح التعاملات. ومع جلالة هذا المقصد، فإن القانون المدني، وإن خدم الاستقرار، فقد حبس هذه النظرية في حدود الذهب والفضة، ولم يفسح لها أن تلامس شغاف النفس، أو تحرس كرامة الإنسان من تغوّل التمثيل الزائف في غير المال. إنه قانون يحرس العقود، لا العدالة الكونية، ويصون التعامل لا المتعامِل، ويتتبع الخطو لا الخاطر. وبذلك، تظل نظرية الوضع الظاهر فيه حبيسة الجدران المالية، لا تتنفس هواء الحرية ولا تعبّ من كأس الكرامة، ما يجعلنا نترقّب بشغفٍ كيف سيحملها القانون الجنائي إلى عوالم أكثر سموًا، وأشدّ نقاءً، وأعمق رحمة.

ثانيًا: الوضع الظاهر في قانون المرافعات:

فقهُ الإجراء لا جوهرُ الحق في محراب قانون المرافعات، حيثُ الميزان لا يزن الحق بذاته، بل يزن الطريق إليه، ويقيس الخطى لا الغاية، يُطلّ علينا مبدأ الوضع الظاهر، لا كدرعٍ يحمي الحق الموضوعي، ولا كسيفٍ يُستخرج به جوهر العدالة، بل كأداةٍ تُقوِّم الشكل، وتُرمم الإجراء، وتُمهِّد السبيل لقطار العدالة أن يمضي على سكّته، ولو شاب مساره غبشٌ في المظهر أو التمثيل. هنا، لا يُعنى القانون بالحقيقة كما هي، بل يُعنى بالحقيقة كما ظهرت، وكما انعكست على صفحة الإجراء، ولو كانت مرآة الإجراء مشروخة. فإذا أُعلن الخصم في موطنٍ بدا ظاهرًا أنه محل إقامته، أو استُكملت الخصومة مع وكيلٍ بدا ظاهرًا أنه مفوَّض، أو استمرّ القاضي في نظر الدعوى رغم علّة في الإجراء طالما الشكل قد رُوعِي، فإن الوضع الظاهر يتقدم في ثوب المُنقذ، لا المُدقق، ويهتف: “الشكل قد كُتب، والإجراء قد جرى، فلا توقفوا سيل العدالة بسدود الشك.” وهكذا، يُغلّب الشكل على الجوهر، لا للتجميل والتزييف، بل للتيسير والتخفيف. إنه فقهُ الإجراء، حيث تُبجَّل الصورة إن كانت أداة لتحقيق الغاية، وتُصان المظاهر الإجرائية ما دامت لا تنحر جوهر الحق، ولا تُزلزل عدالة الحكم. فالوضع الظاهر هنا، كضوء القمر في ليلة العدالة؛ ليس بشمس اليقين، لكنه كافٍ ليُبصر القاضي طريق الفصل، ويمنع المتقاضي من الغرق في لجّة الشكلانية العمياء. إنه لا يحكم في الملكية ولا يُفصِّل في العقود، ولكنه يسمح للإعلان أن يصل، وللدعوى أن تُستكمل، وللمرافعة أن تمضي، حتى وإن اعترى الطريق بعض الغبار، طالما لم يختنق الحق بأنفاس البطلان. لكن، ويا للعجب، أيُّ عدالة تلك التي تُستمد من قشرة الإجراء لا من لبِّه؟ وأيُّ إنصافٍ يُؤسَّس على الظاهر، لا على الضمير؟ إنها عدالةٌ إجرائية، لا موضوعية، عدالةُ الطريق، لا عدالةُ المصير. هي عدالة الشكل، لا عدالة القلب، عدالة الأبواب المفتوحة لا الغرف المحصنة، تُبقي الخصومة حيّة، لا لأنها عادلة، بل لأنها لم تُدفن وفقًا للأصول. ومن هنا، فإن الوضع الظاهر في قانون المرافعات، كمفتاحٍ يُدير قفل العدالة، لكنه لا يضمن أن الباب يفتح على الحقيقة. هو كالعطر في ساحة المحكمة: يشي بجمال الشكل، لكنه لا يدل على طهارة الجوهر. ورغم فائدة هذا الاتجاه في درء البطلان، وتوفير الأمان الإجرائي، وتيسير مجرى العدالة، فإنه يظل في نظر المقارن البصير أدنى منزلة من السمو الذي تحمله هذه النظرية حين تُستدعى في محراب القانون الجنائي، حيث الكرامة أثمن من العقد، والحقيقة أسمى من الشكل، والعدالة لا ترضى بالقشور.

ثالثًا: الوضع الظاهر في القانون الجنائي:

ذروة الإنصاف حين يتعامى الواقع إذا ضاقت ساحات القانون بالأوراق، وضاعت الحقائق بين الأوهام، وانبثق الظلم من رحم الشكل، فإن القانون الجنائي لا يركن إلى الصورة ولا يخدع ببريق القالب، بل يُنصت إلى نداء الضمير، ويُبصر ببصيرة العدل لا ببصر الاتهام. وهنا، تتجلّى نظرية الوضع الظاهر في أبهى تجلياتها، وأجلِّ مواطنها، وأسمى مقاصدها؛ لا لتحمي مالًا، ولا لتزكّي إجراءً، بل لتحرس الإنسان من زلل الجناية، وسوء الظن، وغدر التكييف. في محراب التجريم والعقاب، لا يُؤخذ المرءُ بما فعله ظاهرًا، بل بما نواه باطنًا، ولا يُسأل عن جريمة نشأت من ظاهرٍ كاذبٍ خلقه غيره، وخدعه بلفيفه، وخدّره ببراءته. فمن نفّذ أمرًا تبيّن لاحقًا أنه باطلٌ شرعًا لكنه بدا له حقًا ظاهرًا، أو من تعاون مع من ظنّه يملك الصفة، فبان أنه غاصب لها أو زائف في تمثيله، فإن ميزان العدالة يأبى أن يُدان، ويرفض أن يُجَرَّم، ويصرخ: “النية الطيبة لا تُعاقب، والجهل غير المقصود لا يُدان.” هنا، تتعامى العدالة عن الواقع، إذا كان الواقع خدّاعًا، وتفتح عينيها على ما استقر في قلب الفاعل من اعتقادٍ صادق، لا على ما انكشف لاحقًا من خداعٍ آثم. في هذا المقام، لا يُكرَّم الشكل كما في قانون المرافعات، ولا يُقدَّم الاستقرار كما في أحكام المعاملات، بل يُعظَّم الإنسان ذاته، ويُقدَّس وجدانه، وتُصان فطرته من التشويه بعقوبةٍ لا يستحقها. ويا للعجب، كم من بريءٍ ارتكب فعلًا مُجرَّمًا بنص، لكن يدُ القانون عجزت أن تُمسّه، لأن نيته خلت من الإجرام، وظاهره كان غاشًا لا غاشًّا، مخدوعًا لا خادعًا، تابعًا لا متبوعًا! إنه لا يُدان لأنه أخطأ، بل يُعفى لأنه أُخطيء فيه، وتلك ذروةُ الذرى، ومنتهى منازل العدل، ومجمع مقامات الإنصاف. الوضع الظاهر هنا، كدرعٍ يردّ السهام لا عن مالٍ ولا عن إجراء، بل عن قلبٍ لا ذنب له، ووجدانٍ لم يتلوَّث بعمد، وفكرٍ لم يقصد الإضرار. هو سياج من نورٍ حول البراءة، ومصباحُ هداية في عتمة الظن، وخط فاصل بين الوهم المقصود والاعتقاد المعذور. إنه منارةُ القانون الجنائي، وعلامةُ تميّزه، ومَعلم من معالم إنسانيته؛ فحين تُستدعى هذه النظرية في أروقة الجنايات، تنتصب العدالة شامخة، وتقول للمتهم حسن النية: “قد نفعتك الظنون التي أضلّتك، لأنك لم تكن مجرمًا، بل كنت مغرَّرًا.” وهكذا، يتوّج الوضع الظاهر في هذا المقام تاجًا من نور، لا تحته مالٌ محفوظ، ولا فوقه شكلٌ مصون، بل تحته روح الإنسان التي لا تحتمل الإثم ظلما، ولا تتسع للعقوبة خطأ. ومن لم يفهم هذه الرؤية، فقد جهل روح القانون، وعانق نصّه جفاءً دون أن يُبصر عدله المختبئ خلف السطور.

رابعاً: أيهما أرجح: سلطان الظاهر أم براءة الضمير؟

لأن الحرية لا تُقيَّد بظاهرٍ كاذب إذا اجتمعت القوانين على طاولة الموازنة، وتنازعت فروعها في ميدان الأثر والمآل، كان الوضع الظاهر في القانون الجنائي أشرفها مقصدًا، وأقدسها منزلة، وأصدقها أثرًا، لأنه لا يروم مالًا يُصان، ولا ورقةً تُصحّح، بل ينشدُ الحريةَ صافيةً من شوائب الظن، نقيّةً من دنس الشبهة، عزيزةً عن القيود والأغلال. في القانون المدني، ينتقل الحقُّ من يدٍ إلى يد، بتزكية الظاهر وحُسن النية، فلا يُنقّب القاضي عن الباطن، ولا يُحمَّل الغير تبعة الخداع إن كان حسن الظن بما رآه. وفي قانون المرافعات، يتعلّق مصير الخصومة بمظهر الإجراء، فإن اكتسى الإعلان صورة الصحة، أو تمسّك التمثيل برسم الظاهر، مضى القاضي في نظره لا يلتفت لثغرات الواقع. أما في محراب القانون الجنائي، فالوضع الظاهر ليس ترفًا إجرائيًا، ولا سبيكة قانونية تُصاغ لحسم نزاعٍ مالي، بل هو جدارٌ حصينٌ يدرأ به القانون سيف العقوبة عن رقاب الأبرياء، ويكفُّ به غوائل الاتهام عن قلوبٍ صدّقت ظاهرًا خدّاعًا دون قصد أو إثم. المدني يحمي الذمم. المرافعات ترعى الأوامر. أما الجنائي، فهو حارسُ الحرية، ورافعُ لواء البراءة، وحامي حوزة الكرامة الإنسانية. في هذا المقام، الظاهر لا يُدين، بل يُبرّئ، لا يُعاقب، بل يُعفي، لا يُدخِل صاحبه في زمرة المجرمين، بل يُجنّبه درك المحاسبة على وهمٍ لا يعلم زيفه. فالفاعل الذي اعتقد صدق الصفة، أو مشروعية الأمر، لم يخالف النص، بل قرأ من ظاهر الوقائع نصًا ضمنيًا صدّقه ضميره، وقبله وجدانه، واستراح إليه عقله. أيُّ عدلٍ ذاك الذي يعاقب على جريمةٍ نُسجت في الظن، لا في القلب؟ وأيُّ قضاءٍ ذاك الذي يضع القيد في يد من لم يُرِد الإثم، ويُنزل العقوبة بمن أضلّه ظاهر مشروع؟ أليس من جوهر مبدأ “لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص” أن يُفهَم النص لا بلسان القانون وحده، بل بلغة الواقع الذي تَشكَّل في ذهن الفاعل؟ أليس الظاهر – في حال حُسن النية – نصًا افتراضيًا قرأه الفاعل بحسن ظن، وأطاعه غير مُبطِن لإرادة الآثام؟ فهل يُعاقب من أطاع ظاهر القانون، وإن لم يَدرِ أنه في خديعةٍ صامتة؟ لا جرم إذًا أن يكون الوضع الظاهر في القانون الجنائي أسمى من أن يُقاس ببقية الفروع، وأقدس من أن يُؤخذ بالمسطرة ذاتها، لأنه لا يحمِي مصالح، بل يحمي المصير، لا يرعى الشكل، بل يرعى الإنسان. هو فصلٌ من ملحمة العدالة، تروي كيف تنتصر الكرامة على الوهم، والنية على الظاهر، والحرية على القيد، والإنصاف على الانتقام. هو البلسم الذي يسري في جراح القانون، ليمنع أن يتحوّل النص إلى سوط، وأن تصير العدالة أداة قهرٍ تُبرِّر الأذى بمحض الشكل. فيا مشرّعَ القوانين، ويا فقيهَ العدالة، لا تجعل من الظاهر سيفًا يُستلُّ على رقاب الأبرار، ولا تبنِ القيد على قشورٍ لم يُقصَد بها الشر، فإن الحرية أرفع من أن تُحبس في قفص الظن، والإنسان أسمى من أن يُحاسَب على باطلٍ صدّقه بحُسن قلب، لا بسوء قصد.

خاتمة: شرفُ الظاهر حين يتماهى مع براءة النية:

إنّ من نِعَمِ العقل أن يفقه الإنسان أن العدل ليس في سطور القانون فحسب، بل في روحِه ومقاصده، في مقاطع النية، لا في مواقع الظاهر وحده. فالوضع الظاهر، وإن بدا في غير الجنائي أداةً مكمّلة، أو وسيلةً لإصلاح الخلل، فهو في ساحة الجريمة تاجُ الإنصاف، وسُرُجُ الرحمة، وبُرجُ الحصانة الذي يأوي إليه المظلوم حين يُهدر باطنه ويُحاكم على ظاهرٍ لم يصنعه بيديه. في ربوع القانون المدني، الظاهرُ ينقل الملك. في رحاب المرافعات، الظاهر يُصلح الشكل. أما في محاريب القانون الجنائي، فالظاهر يُنقذ النفس من سوءِ التأثيم، ويصدُّ عصف الاتهام عن نقيّ السريرة، ويغلق أبواب السجن عن قلبٍ لم يعرف الخيانة، ولم يتلبّس بالإجرام. فالنية البيضاء إذا لُفّت بستارٍ كاذب، وجب أن تُحاكَم لا بثقل الظاهر، بل بخفة الحق، لا بحدِّ الشك، بل بيقين البراءة. كيف يُدان من لم يُدبّر شرًا، بل استند إلى ما بدا له عدلًا؟ كيف يُساق إلى قفص الاتهام من اتّبع ظاهرًا مشروعًا، ولم يلحظ في الأفق خيانةً ولا خداعًا؟ أليس الظاهر في هذه الحال، كالمصحف في يدي الأبرار، يُحمل احترامًا، لا يُتّهم خديعة؟ إن شرف القانون الجنائي، لا في عقوبته الصارمة، ولا في ردعه الحاسم، بل في رقّته حين يُبصر أن الجاني لم يكن جانٍ، بل كان ضحية مشهدٍ مزيّف، ومرآةٍ خدّاعة، وزخرفٍ موهومٍ طبعَ على عينيه طابعَ التصديق. هو قِمّة الرحمة في حضيض الاتهام، ونُبلُ الشك حين يعجز اليقين، وسَعة العدالة حين يضيق النص. فيا صانع التشريعات، ويا حارس الضمائر، ارفع بصرك فوق سُطور المظهر، وانظر إلى سريرة من وقع في الفعل لا عمدًا، بل انخداعًا، لا جرمًا، بل ظنًا، لا تلبُّسًا، بل انجرارًا وراء ما بدا حقًّا وهو الباطل بعينه. واجعل من “النية البريئة” صكَّ براءةٍ إذا جهلتْ الزيف، واتّبعت ظاهرًا لا ريبة فيه، فالعدل أرفع من أن يُمسَك بأصفاد المظهر وحده. وها هو الوضع الظاهر، وقد ارتقى في محراب القانون الجنائي، من قرينة إجرائية، إلى درعٍ أخلاقيٍّ، وسياجٍ عدليّ، وملاذٍ شرعيٍّ يُحسن الظنّ حين يعجز البرهان، ويُنقذ الإنسان من أن يُحاكم على ما لم يُرده، وإن فعله فعلًا، أو نُسب إليه زورًا. إنه البيان حين تصمت النصوص، والإنصاف حين يختلط الشكل بالجوهر، وهو شرف الظاهر، حين يتماهى مع نقاء السريرة، وبراءة النية. فطوبى لقانونٍ يجعل من العدل راية، ومن النيّة بوصلة، ومن الظاهر مَعبرًا، لا مَصيرًا، ومن الإنسان جوهرَ الأحكام لا مجردَ محلٍّ للعقوبة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى