قانون

 حرية القاضي في تكوين عقيدته في القرآن الكريم: ميزان العدل بين النص والاجتهاد

بقلم: د. يوسف الديب

 

 مقدمة

لا جرم أن حرية القاضي في تكوين عقيدته القضائية هي مرتكز العدل وركن الإنصاف، إذ إنها تعني استقلاله المطلق في تقدير الأدلة، وإمعان النظر في ملابسات الوقائع، واستنباط الحقائق بمنأى عن كل مؤثر خارجي أو ضغطٍ موجه. ولما كان القضاء لا يقوم إلا على ميزان الحق الذي لا يميل، فقد أرسى القرآن الكريم مبادئ قوامها العدل المطلق، حفظًا للتوازن بين الاجتهاد الشخصي والتقيّد بأحكام الشرع القطعية، فلا يطغى الهوى على سلطان القانون، ولا تجنح الإرادة إلى غير سبيل الحق. وحيث إن القاضي هو صاحب الولاية في وزن الأدلة بميزان دقيق، لا يغشاه التحيز، ولا تتداخل فيه الظنون، فقد شُبِّه في عدله بمن يمشي على صراطٍ دقيق كالشعرة، لا يميل يمنةً فيجور، ولا يسرةً فينحرف. وإذ كيف يكون القضاء صراطًا مستقيمًا، إن لم يكن القاضي فيه متجردًا عن كل هوى، مستنيرًا ببصيرة الحق التي لا تخطئ؟ ولئن كان الناس متفاوتين في أفهامهم، فإن القاضي يُرتجى منه أن يكون ميزانًا لا تختل كفته، وحكمًا لا تزل قدمه، فإن أخطأ في تقديره فقد “كأنما خر من السماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق”، وإن أصاب فذلك صنيع من “يهدي الله فهو المهتدي”. وما انفك القرآن الكريم يؤكد أن ميزان القضاء قائم على الحجة والبرهان، فلا غرو أن يكون القاضي أشبه بمن يقيم بناءً لا تميل أعمدته، فإن وضع حجراً في غير موضعه، تداعى عليه بنيانه من القواعد، فكان كمن “اتخذ بيتاً من العنكبوت وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون”. أفترى العدل يُبنى على غير ركن وثيق؟ وفي حين أن استقلال القاضي شرطٌ لازمٌ لإقامة العدل، فإن هذا الاستقلال لا يعني التفلت من أصول الاستدلال، بل لا بد من مراعاة السياقات التشريعية والقواعد المحكمة، حتى يكون اجتهاده محاطًا باليقين، لا تحركه الأهواء ولا تزل به الأقدام. فإن لم يكن كذلك، غدا كمن يتلمس طريقه في ظلمات متراكبة، لا يهتدي إلى بصيص النور. ولما كان القضاء رسالةً قبل أن يكون وظيفةً، كان لزامًا على القاضي أن يكون، فيما يزن من أحكام، كالسيف القاطع الذي لا يثلم، لا تلين إرادته، ولا تضعف حجته، فإن القضاء العادل أشبه بالشجرة الطيبة التي أصلها ثابت وفرعها في السماء، لا تميلها الريح، ولا تعصف بها العواصف. فما القضاء إلا ميثاق، إن وفّى به القاضي، كان كمن أدى الأمانة، وإن خان فيه، كان كمن خان العهد، وشتان بين من يقيم العدل بحق وبين من يجور، فإن “من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها وهم لا يظلمون”.

1- أصل حرية القاضي في الاجتهاد: النبي داوود نموذجًا

يتجلى في قصة نبي الله داوود عليه السلام درس بليغ في وجوب التروي في القضاء، فبرغم مكانته كنبيٍ وقاضٍ عادل، وقع في خطأ التسرع بالحكم دون سماع الطرف الآخر، مما استوجب التنبيه الإلهي. فكيف لقاضٍ، مهما بلغ من الحكمة، أن يصدر حكمًا دون استيفاء أركان العدالة؟ لقد منح الشرع القاضي حرية تكوين قناعته، غير أن هذه الحرية ليست مطلقة، بل مقيدة بضوابط جوهرية، منها سماع كافة الأطراف، إذ إن القاضي الذي يحكم بناءً على رواية طرف واحد قد يقع في ظلم غير مقصود، كما حصل في قصة داوود عليه السلام، ومنها التحقق من البينات، فلا يكفي أن يكون الادعاء قويًا، بل لا بد من فحص الأدلة، إذ قال تعالى: “إِن جَآءَكُمْ فَاسِقٌۭ بِنَبَإٍۢ فَتَبَيَّنُوا” (الحجرات: 6)، ومنها الابتعاد عن التسرع، فالقضاء ميزان دقيق، وأي اختلال فيه يُفضي إلى الجور، ولهذا كان العتاب الإلهي لداوود عليه السلام بمثابة درس خالد لكل قاضٍ يستعجل في الحكم. إن سرعة الحكم دون تمحيص تفضي إلى أحكام جائرة، والقاضي الذي يحكم بلا بينة كمن يبني على أساسٍ واهٍ، فينهار حكمه عند أدنى اختبار. ولهذا، فإن الاستغفار الذي جاء به داوود عليه السلام لم يكن مجرد توبة، بل كان إدراكًا عميقًا بأن العدل يقتضي سماع كل الأطراف، واستنفاد وسائل التحقيق، قبل إصدار أي حكم. فمن حكم قبل أن يتبيّن، كان كمن يستمسك بظل زائل، أو كمن يلهث خلف سرابٍ بقيعة يحسبه ماءً حتى إذا جاءه لم يجده شيئًا.

2- النبي سليمان: الاجتهاد في الأدلة للوصول إلى الحقيقة

يبرز الاجتهاد القضائي كإحدى أعظم الملكات التي منحها الله للقضاة، وهو ليس مجرد استنباط نظري، بل هو فنٌّ دقيقٌ يستند إلى حسن الفهم، وإعمال الفكر، وسعة البصيرة في استجلاء الحقائق. ولعل قصة نبي الله سليمان عليه السلام مع المرأتين المتنازعتين على الطفل، تعدّ مثالًا خالدًا على دقة الاجتهاد القضائي، إذ لم يكن هناك شاهد أو بينة قاطعة تفصل بين الادعاءات، فكيف للقاضي أن يحكم في نزاع تغيب عنه الأدلة؟ هنا أبدع سليمان عليه السلام في استخدام “الذكاء القضائي”، حينما لجأ إلى اختبار نفسي كشف عن الحقيقة، فكانت رحمة الأم الحقيقية بابًا للوصول إلى الحكم العادل. إن هذه الحادثة لم تكن مجرد موقف عابر، بل هي درس بليغ في أن القاضي لا يقتصر دوره على الاستماع إلى الأقوال فحسب، بل عليه أن ينفذ إلى أعماق النفوس، وأن يتدبر طبائع البشر، ويتحرى العدل في أنقى صوره. فالقضاء ليس عملية ميكانيكية تستند إلى نصوص جامدة، بل هو منظومة حية تتطلب حكمة نافذة، وهو ما أشار إليه القرآن الكريم حينما قال: “فَفَهَّمْنَٰهَا سُلَيْمَٰنَ ۚ وَكُلًّۭا ءَاتَيْنَا حُكْمًۭا وَعِلْمًۭا” (الأنبياء: 79)، مما يدل على أن الحكم والقضاء لا يكونان نافذين إلا إذا اقترنا بالعلم العميق والفهم الدقيق.

وإذا كان الاجتهاد ضرورة في القضايا التي لا نص قاطع فيها، فإن ذلك لا يعني إطلاق يد القاضي ليحكم وفق هواه، بل لا بد أن يكون اجتهاده خاضعًا لثلاثة ضوابط رئيسة: 1. عدم مجاوزة النصوص القطعية: فحيثما وجد النص الصريح، وجب على القاضي التقيد به، دونما تحريف أو تأويل، كما في الحدود التي جاءت بها الشريعة، حيث قال تعالى: “وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ ٱللَّهُ فَأُو۟لَـٰئِكَ هُمُ ٱلظَّـٰلِمُونَ” (المائدة: 45). 2. استناد الحكم إلى البينة والعدل: فلا يكون اجتهاد القاضي ارتجالًا أو ظنًا مرجحًا، بل يجب أن يستند إلى أدلة تعزز قناعته، سواء كانت بينات مادية، أو قرائن قوية تدل على الحقيقة، كما قال تعالى: “إِن جَآءَكُمْ فَاسِقٌۭ بِنَبَإٍۢ فَتَبَيَّنُوا” (الحجرات: 6). 3. تحري المقصد الحقيقي للعدالة: فالعدل ليس في تطبيق النصوص فقط، بل في تحقيق مقاصدها، ولهذا كان الاجتهاد مطلبًا ضروريًا، لكنه لا يعني الخروج عن روح القانون، بل الانسجام معه، على نحو ما فعله عمر بن الخطاب حين عطل حد السرقة عام المجاعة، لأن إقامة الحد في تلك الظروف كان يتنافى مع مقاصد التشريع. ومن ناحية اخري نري أن الاجتهاد القضائي وموازنة المصالح يكمن في إن القاضي، وهو ينظر في القضايا التي لا بينة فيها، أشبه بمن يسير في بحر متلاطم، يحتاج إلى دفة حكيمة، وبوصلة دقيقة، حتى لا يضلّ طريق الحق. ولهذا، فإن الاجتهاد القضائي ليس “ترفًا فكريًا”، بل هو وسيلة لتحقيق التوازن بين صرامة النصوص ومتغيرات الواقع. فأي اجتهاد لا ينضبط بمقاصد العدالة، يصبح عبثًا، وأي حكم لا ينبع من فهم دقيق للواقع، يكون بعيدًا عن روح القانون. فالعدل لا يكون عدلًا إلا إذا قام على ميزان دقيق بين النص والاجتهاد، بين البينة والعقل، بين القطع والظن الراجح، وإلا فإن القاضي الذي يحكم بغير بينة، أو ينحاز إلى رأيه المجرد، يصبح كمن يستوقد نارًا، فلما أضاءت ما حوله، ذهب الله بنوره وتركه في ظلمات لا يبصر..

3- القاضي بين النصوص القطعية والاجتهاد الشخصي

ولئن كان القاضي هو صاحب السلطة في فهم الوقائع وإنزال الأحكام، فإن ذلك لا يعني أنه مطلق اليد في إصدار قراراته دون قيد أو ضابط، بل إنه مكلف بأن يكون ميزان العدل الذي لا يميل مع الهوى، ولا يتأثر بالظروف الطارئة، ولا يخضع لضغط الأقوياء أو تأثير العواطف. إذ كيف للقضاء أن يكون مرآة الحق إن كان القاضي يحكم وفق مشاعره أو استحسانه الشخصي، لا وفق مبادئ العدل والقانون؟ من هنا، كان لا بد أن يكون القاضي عاملًا وفق مبدأين جوهريين: الالتزام بالنصوص القطعية، والاجتهاد المنضبط في غيابها. ففي حال ورود النصوص القطعية، لا يكون للقاضي أن يجتهد أو يؤول، لأن الحكم قد تحدد ببيان قاطع لا مجال فيه للرأي، كما هو الحال في الحدود والقصاص، حيث قال الله تعالى: “تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا” (البقرة: 187). فهذه الأحكام وضعت بميزان دقيق، ولا يملك القاضي إلا تطبيقها بما يوافق مقصد الشارع، وإلا كان متجاوزًا لاجتهاده، متحكمًا في النصوص وفق هواه. أما إذا غاب النص القطعي، ظهر دور القاضي في الاجتهاد، ولكن ليس اجتهادًا مطلقًا لا ضابط له، بل اجتهادًا مقيدًا بمقاصد الشريعة وروح العدالة، بحيث يبحث عن الحق فيما استجد من وقائع لم يرد بها نص قاطع. وقد كان هذا المنهج واضحًا في تاريخ القضاء الإسلامي، حيث اجتهد الصحابة والتابعون في المسائل المستحدثة، مسترشدين بمبادئ العدل العامة، كما فعل عمر بن الخطاب عندما عطل حد السرقة في عام الرمادة، نظرًا للضرورة التي جعلت إقامة الحد في مثل هذه الظروف ظلمًا ينافي مقصد الشريعة. وهنا تتجلى حكمة الموازنة بين النص والاجتهاد؛ إذ أن القاضي ليس مجرد منفذ آلي للنصوص، كما أنه ليس مشرّعًا جديدًا يضع الأحكام وفق ما يراه، بل هو مكلّف بأن يجمع بين الامتثال للنصوص القطعية والاجتهاد في غيرها ضمن دائرة الحق، بحيث لا يكون حكمه ارتجاليًا، ولا يكون خاضعًا للضغوط أو الأهواء. فمن حَكَمَ بمحض رأيه دون دليل، كان كمن يمشي في الظلمات، يحسب أنه يهتدي، حتى إذا أخرج يده لم يكد يراها، ومن التزم بالعدل، جعل من اجتهاده ضياءً يستنير به في دروب القضاء، فكان أقرب إلى الصواب، وأبعد عن مظان الجور والانحراف. إن الاجتهاد في القضاء ليس تحررًا من القيود، وإنما هو مسؤولية عظيمة، إذ أن القاضي لا يحكم لمجرد إقناع نفسه، بل يحكم بما يحقق العدل وفق البينة، وإلا كان كمن يلهث خلف السراب، يحسبه ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئًا.

4- حرية القاضي بين الشهادة والبينات

ولئن كان للقاضي أن يجتهد في تقدير الأدلة وفق ما يتراءى له من معايير العدالة، فإن ذلك لا يعني إطلاق العنان له ليحكم بمحض ظنونه، أو أن يخلط بين الاجتهاد المشروع والميل إلى التأويلات المتعسفة التي تخرج الأحكام عن سياقها الصحيح. إذ كيف للقضاء أن ينهض بوظيفته السامية إن لم يكن مستندًا إلى يقينٍ راسخ، لا تهزه الأهواء، ولا تعتريه الشبهات؟ فالقضاء، في جوهره، رسالة قبل أن يكون وظيفة، وموازنة دقيقة بين الإنصاف والتجرد، بحيث لا يكون الحكم انعكاسًا للقدرة على الإقناع، بل محض انكشاف للحقيقة. وقد جاءت الأحكام الشرعية لترسي دعائم هذه المنظومة، حيث لم تكتفِ بإرساء مبدأ البينة، بل وضعت ضوابط تحكم آلية استنباط الأحكام، وتمنع تحول القضاء إلى ساحةٍ يتلاعب فيها الأقوى حجةً بالأضعف بيانًا. وليس أدل على ذلك من تحذير النبي ﷺ حين قال: “إنكم تختصمون إلي ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، فأقضي له على نحو ما أسمع، فمن قضيت له بحق أخيه، فإنما أقطع له قطعة من النار” (متفق عليه). فإذ كيف لقاضٍ أن يجعل من فصاحة أحد الخصوم سندًا لحكمه، بينما جوهر القضاء أن يكون عصيًا على التزييف، محصنًا من الانحراف؟ ومن هنا، كان لا بد أن يكون القاضي ذا بصيرة نافذة، متجردًا عن كل ما قد يؤثر على قراره، فلا يحكم بغير بينة، ولا يسارع إلى الجزم قبل استيفاء الأدلة، وإلا كان أشبه بمن يسير في ظلمات بعضها فوق بعض، يخالها طريقًا مضيئًا حتى إذا بلغ منتهاها أدرك أنه كان ماضغًا للسراب، أو كمن فقد دفته في عباب البحر، يظن أنه يحسن الإبحار، حتى يجد نفسه على شفا هاوية سحيقة. وما انفك النظام الإسلامي يؤكد على أن القضاء أمانة عظيمة، لا يجوز التساهل فيها، ولا التفريط في مقتضياتها، إذ قال تعالى: “إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ” (النساء: 58). فكان هذا النص بمثابة حجر الأساس في المنظومة القضائية الإسلامية، إذ جعله قاعدة جامعة مانعة، تُلزِم القاضي بألّا يكون حكمه محض اجتهاد عشوائي، بل اجتهادًا منضبطًا، يستند إلى دلائل ثابتة، ويصدر عن عقل راجح، ونفسٍ لا يداخلها هوى. فإذا كان الاجتهاد في تقويم الأدلة هو جوهر الوظيفة القضائية، فإن القاضي لا بد أن يكون كربان السفينة، الذي يحسن تقدير الرياح قبل أن يرفع الشراع، فإن كان بصيرًا، بلغ بسفينته بر الأمان، وإن كان مغترًا بمهارته دون مراعاة أمواج العدل، ضل في لجةٍ لا قرار لها، فكان من الخاسرين.

5- النبي محمد ﷺ: أكمل نموذج لاستقلال القضاء

ومن هنا، كان القضاء في الإسلام رسالةً قبل أن يكون وظيفة، إذ لا يُناط بالقاضي مجرد الفصل بين الخصوم وفق ما يُلقى بين يديه من حجج، بل يُكلَّف بالتعمّق في جوهر القضايا، وتمحيص الأدلة، وتحرّي العدل المطلق، بحيث لا يكون الحكم انعكاسًا لبراعة المترافعين، وإنما تجليًا للحقيقة المجردة التي لا يشوبها الهوى ولا تغشاها الشبهات. ولئن كان استقلال القاضي في تكوين عقيدته أمرًا جوهريًا، فإنه استقلالٌ منضبط لا انفلات فيه، محكومٌ بميزان الشرع، مُسدَّدٌ بنور العقل، مُقوَّمٌ بضوابط تمنعه من أن يكون أداةً بيد من يتقنون التلاعب بالألفاظ أو تزوير الوقائع. فهو، كما وصفه النبي ﷺ، مسؤول أمام الله عن كل كلمة ينطق بها، فإن جار في حكمه، أو انحاز لهوى نفسه، أو حكم وفق ظاهر الحُجج دون تمحيص، كان كمن قطع قطعةً من النار لنفسه قبل أن يمنحها لغيره. وعلى هذا الأساس، كان القضاء الحق أشبه بجذع شجرة باسقة تضرب بجذورها في أعماق الحق، لا تزعزعها عواصف التزييف، ولا تعبث بها رياح التضليل. فالقاضي، إذا لم يكن مستقيمًا في اجتهاده، عادلًا في موازنته، نزيهًا في قراره، كان كمن اقتلع تلك الشجرة الطيبة ليغرس مكانها نبتًا خبيثًا لا يثمر إلا ظلمًا وجورًا. وما انفكت الشريعة الإسلامية تؤكد على أن الحكم يجب أن يكون مبنيًا على البينة القاطعة، لا على الظنون والتخرصات، إذ كيف لقضاء أن يستقيم إذا ما استند إلى مزاعم واهية أو تأويلات غير محكمة؟ بل لا بد أن يكون الحكم كالشمس في رابعة النهار، ظاهرًا جليًا، لا يعتريه لبس ولا غموض، مصداقًا لقوله تعالى: “وَأَنِ ٱحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ ٱللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَآءَهُمْ” (المائدة: 49). وعليه، فإن استقلال القضاء، كما قررته الشريعة الإسلامية، وكما أقرّته النظم القانونية الحديثة، هو استقلالٌ منضبطٌ بميزان العدل، مشروطٌ بالحكمة والتثبت، محكومٌ بروح الإنصاف. فلا يكون القاضي مسيّرًا بهوى نفسه، ولا مُقيَّدًا ببلاغة أحد الخصوم، بل يكون ميزانًا دقيقًا، تُوزن أمامه الحقوق بميزان الشرع والعقل، فلا يميل إلا إلى الحق، ولا يُصدر حكمًا إلا بعد أن يستوثق من أنه لا يقطع به إلا ما هو عدلٌ خالصٌ، لا يعتريه باطلٌ ولا شُبهة.

6- الضوابط القرآنية لحرية القاضي في تكوين عقيدته

يتبيّن مما سبق أن استقلال القاضي في تكوين عقيدته لا يعني إطلاق يده دون ضوابط، بل هو استقلال مشروط بقيود تضمن تحقيق العدل، وتدرأ عنه مزالق الهوى والانحراف. فالقاضي ليس مشرّعًا، وإنما هو منفّذ لحكم القانون، غير أنه يتمتع بسلطة تقديرية تخوّله ترجيح الأدلة وفقًا لما يستقر في وجدانه من قناعة، شريطة أن يكون ذلك قائمًا على أسس موضوعية لا تتأثر باعتبارات شخصية أو ميول نفسية. ولئن كان العدل هو الغاية الأسمى من القضاء، فإن تحقيقه لا يتم إلا بميزان دقيق يراعي المساواة بين الخصوم، فلا يميل مع القوي على الضعيف، ولا يُغلب العاطفة على الحق، فكما قال تعالى: “وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَـَٔانُ قَوْمٍ عَلَىٰٓ أَلَّا تَعْدِلُوا۟ ۚ ٱعْدِلُوا۟ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ” (المائدة: 8). وهذه القاعدة تجعل من الحياد والموضوعية ركنين أساسيين في ممارسة القضاء، بحيث يتجرد القاضي من كل مؤثر خارجي، فلا يلتفت إلى وجاهة الخصوم أو منزلتهم، بل يحكم وفقًا لما تقرره الأدلة والبينات. أما التسرّع في إصدار الأحكام فهو من أخطر الآفات التي قد تفسد القضاء، إذ لا يستقيم العدل إلا بالتروي والتثبت، وقد أرشدنا القرآن الكريم إلى ذلك بقوله: “يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓا إِن جَآءَكُمْ فَاسِقٌۭ بِنَبَإٍۢ فَتَبَيَّنُوٓا” (الحجرات: 6). فالتأني في النظر، والتثبت من صحة الأدلة، والتعمق في تحليل الوقائع، أمور تجعل الحكم أقرب إلى تحقيق مقاصد العدالة، وتجنّب القاضي أن يكون أداةً بيد المخادعين أو المتلاعبين بالحجج. على أن السلطة التقديرية للقاضي تظل رهينة بقاعدة جوهرية أخرى، وهي ضرورة الاستناد إلى أدلة قاطعة، إذ كيف لقاضٍ أن يبني حكمه على الظنون والاحتمالات؟! بل لا بد أن يكون الفصل بين الخصوم مستندًا إلى حجج دامغة، وإلا كان الحكم أقرب إلى الترجيح منه إلى اليقين، كما قال تعالى: “وَٱلَّذِينَ هُمْ لِأَمَٰنَٰتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَٰعُونَ” (المؤمنون: 8). فالقضاء أمانة ثقيلة، لا يصح حملها إلا لمن التزم بأدلة صريحة تحسم النزاع دون التباس. إن هذه المبادئ التي أرساها القرآن الكريم ليست مجرد توجيهات أخلاقية، بل هي قواعد مؤسسة لجوهر القضاء العادل، وقد أخذت بها الأنظمة القانونية الحديثة، حيث تبنّى القانون الفرنسي والمصري مبدأ “اقتناع القاضي الحر”، ليكون الحكم مبنيًا على قناعة قضائية لا يشوبها تأثير خارجي، لكن مع إلزام القاضي بتسبيب أحكامه، حتى لا يتحول الاقتناع الشخصي إلى مجرد رأي ذاتي لا يستند إلى منطق قانوني راسخ. ومن ثم، فإن القضاء ليس مجرد وظيفة يؤديها القاضي وفق نصوص جامدة، بل هو مسؤولية عظيمة، تتطلب اجتهادًا دقيقًا، وحكمةً بالغةً، وتجرّدًا كاملًا. فالقاضي في الإسلام أشبه بربان سفينة، يجوب بحر العدالة مسترشدًا بنور النصوص، مدفوعًا برياح الاجتهاد، لكنه ملتزم بالبوصلة التي توجهه نحو الحق، فلا يحيد عنه قيد أنملة.حرية القاضي في ضوء القوانين الحديثة

ولئن كان القرآن الكريم قد أرشد إلى هذه المبادئ منذ قرون، فقد تبنتها الأنظمة القانونية الحديثة، حيث نجد أن القانون الفرنسي جعل “اقتناع القاضي الشخصي” أساس الحكم، كما نص القانون المصري على أن “القاضي يحكم بناءً على اقتناعه الحر، مستندًا إلى الأدلة المطروحة في الدعوى”

وهذا يثبت بما لا يدع مجالًا للشك أن حرية القاضي في تكوين عقيدته، كما قررها القرآن الكريم، ليست سوى امتداد للأسس التي قامت عليها العدالة الحديثة

الخاتمة: القاضي بين الاجتهاد والالتزام بالنص

يتضح مما سبق أن القاضي في المنظور الإسلامي لم يكن مجرد منفذ للنصوص، بل كان صاحب سلطة واسعة في استنباط الأحكام وتقدير الأدلة، دون أن يكون ذلك منفصلًا عن الضوابط المحكمة التي أرستها الشريعة الإسلامية. فقد أعطاه القرآن الكريم مساحة واسعة في الاجتهاد حين يغيب النص القطعي، ولكنه في الوقت نفسه قيّده بمبادئ العدل والتقوى وتحري الحق، فجاء النظام القضائي الإسلامي متوازنًا بين الحرية والالتزام، بين الاجتهاد والتقيد، وبين البحث عن العدل وتجنب اتباع الهوى. لقد قرر القرآن الكريم مبدأ استقلال القاضي، لكنه لم يترك هذه الاستقلالية بلا ضوابط، بل وضع لها أسسًا تحكمها، فجعل العدل أصلًا ثابتًا لا يحيد عنه القاضي، والتثبت في الحكم ضرورة لا غنى عنها، والاستناد إلى الأدلة القاطعة شرطًا لا بد منه. وهذا التوازن بين الحرية والضبط هو ما يضمن للقضاء نزاهته ويجعل الأحكام أقرب إلى تحقيق مقاصد الشريعة والعدالة. فالقرآن لم يكبل القاضي بقيود تعوق اجتهاده، ولم يطلق له العنان ليحكم بهواه، وإنما جعل اجتهاده مقيدًا بميزان الشرع، ومنحه سلطة تقديرية مشروطة بالمقاصد العليا التي لا تحيد عن إقامة الحق ونصرة المظلوم وردع الظالم. فالقاضي في الشريعة الإسلامية أشبه بمن يسير في طريق ممهد، تحدده النصوص القطعية حين تكون موجودة، وترسمه قواعد الاجتهاد حين يكون غائبًا، لكنه في كل الأحوال يسير في دائرة العدل التي لا يجوز له أن يتخطاها. فإذا نظرنا إلى القاضي في الإسلام، وجدناه مكلفًا بمهمة عظيمة، لا يقتصر دوره على تطبيق الأحكام المكتوبة، وإنما عليه أن يستوعب روح التشريع، ويدرك مقاصد النصوص، ويزن الأمور بميزان الحق والإنصاف، فلا يميل مع خصم على حساب آخر، ولا يتأثر ببلاغة المحامين، ولا تستهويه قوة الجدل، بل ينفذ إلى جوهر الحقيقة، فيحكم بما يستقر في ضميره استنادًا إلى الأدلة والبراهين. ولما كان القاضي معرضًا للخطأ، ومحدودًا بحدود بشريته، فقد جاء التوجيه النبوي مؤكدًا على ضرورة التثبت والتروي، فقال النبي محمد ﷺ محذرًا القضاة من مغبة الاعتماد على الظواهر دون استجلاء الحقائق: “إنكم تختصمون إليّ، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، فأقضي له على نحو ما أسمع، فمن قضيت له بحق أخيه، فإنما أقطع له قطعة من النار” متفق عليه، مما يدل على أن القاضي، وإن كان له حرية تكوين قناعته، إلا أن هذه الحرية لا تعفيه من المسؤولية الأخلاقية أمام الله، فهي ليست حقًا مطلقًا، بل أمانة ثقيلة تُحمل على عاتقه، وهي في ذلك أشبه بالنار التي لا يحسن حملها إلا من كان أهلًا لها. ولئن كانت الشريعة الإسلامية قد أرست هذه المبادئ، فإن الأنظمة القانونية الحديثة قد تبنّت العديد من هذه الأسس، فجعلت الاقتناع الشخصي للقاضي أساس الحكم، كما هو الحال في القانون الفرنسي الذي قرر أن القاضي يحكم بناءً على قناعته الحرة، وكذلك القانون المصري الذي اعتمد نفس المبدأ، وهو ما يثبت أن الحرية القضائية التي أقرها القرآن الكريم قد أصبحت الركيزة التي قامت عليها العدالة في مختلف الأنظمة القانونية المعاصرة. فالحرية القضائية هي كالسفينة التي تبحر في بحر العدالة، لها شراع من الاجتهاد، ولكن لها بوصلة من النصوص الإلهية حتى لا تضل الطريق، فإذا اجتمع الاجتهاد والضبط، واتحدت السلطة التقديرية مع مقتضيات النصوص، كان القضاء عادلًا، وكانت أحكامه أقرب إلى الحق، وكان القاضي أمينًا على ميزان العدالة، لا يحيد عنه قيد أنملة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى