قانون

قانون الدكتوراة الفخرية

د. يوسف الديب ؛ عضو الجمعية المصرية للقانون الجنائي

 

لقد شاءت أقدار العلم أن تبقى شموسه متوهجة في سماء الأمم، فلا تنطفئ جذوتها، ولا يبهت ضياؤها، كما لا يخبو وهج الشمس في أعماق الفضاء مهما غطتها سحب العابرين. وإن من أشرف مصابيح هذه الشموس: الدكتوراه الفخرية، تلك النياشين الرمزية التي تُعلّق على صدور العظماء؛ لا تزلفًا ولا محاباة، بل عرفانًا لما أسدوه من معروف للعلم أو للوطن أو للإنسانية، كقلادة ياقوت في جيد الزمن، لا تليق إلا بمن جعلوا من الفكر محرابًا، ومن الجهد صلاة لا تنقطع.

وقد أفاض علينا معالي أستاذي الفقيه الكبير، الدكتور أحمد عبد الظاهر، أستاذ القانون الجنائي بكلية الحقوق – جامعة القاهرة، برواية فريدة تقطر بالعبر، وتضيء لنا زوايا هذا الموضوع، كما يضيء البرق صفحة الليل الدامس. إذ حدّثنا عن يوم مشهود في مسيرته العلمية، حين نال درجة الدكتوراه في القانون الجنائي من جامعة باريس 2 (بانتيون أساس) في التاسع من يناير عام 2002م، وهو يوم محفور في ذاكرته وقلوب تلامذته، لا سيما وقد كان على منصة المناقشة قامة لا تجارى في الفقه الجنائي العربي، وأيقونة من أيقونات العلم، وعميد العلماء بلا منازع، معالي الأستاذ الدكتور محمود نجيب حسني، عليه شآبيب الرحمة والرضوان.

ولقد أضاف لنا أستاذنا الدكتور أحمد عبد الظاهر من كنز ذكرياته ما يجلي صورة من صور النزاهة الفكرية والصرامة الأكاديمية، حين روى لنا أن الأستاذ الدكتور محمود نجيب حسني، في أثناء عمادته لكلية الحقوق بجامعة القاهرة (1977-1982)، قد وقف سدًا منيعًا أمام اقتراح تقدم به بعض أعضاء مجلس الكلية بمنح الرئيس الراحل محمد أنور السادات درجة الدكتوراه الفخرية في القانون. وبرغم المكانة السياسية الرفيعة للرئيس السادات، وبرغم ما كان يمكن أن يغدق من نعم دنيوية على من يوافق هذا المقترح، فإن عميد الفقه رفضه رفضًا قاطعًا. وكان منطقه في ذلك أن الدكتوراه الفخرية في القانون لا تُمنح إلا لمن قدم إسهامات جليلة في ميدان القانون، وكان حائلًا دونه أن يحصل على الدرجة الأكاديمية؛ وما دام هذا الوصف لا ينطبق على الرئيس السادات، فلا محل للمنح.

أي مروءة هذه؟ وأي وفاء للمعيار العلمي؟ وأي صلابة تلك التي تعلو على إغراءات السياسة والسلطان؟ لقد كان كالجبل الراسخ، لا تهزه الرياح، ولا تفتّ من عضده الأعاصير، رجلًا لو نطقت النزاهة لانتسبت إليه، ولو تجسدت الكرامة لسجدت عند قدميه.

ثم تحول الحديث إلى وجه آخر من وجوه التقدير؛ لا على سبيل المنع، بل على سبيل الاستحقاق، حين همّت جامعة باريس 2 بمنح الدكتور محمود نجيب حسني درجة الدكتوراه الفخرية، فعهد إلى تلميذه النجيب – الدكتور أحمد عبد الظاهر – بكتابة نبذة عنه تتضمن مبررات الترشيح، قائلًا بتواضعه المهيب: “لا أجيد الكتابة عن نفسي”. فكانت عبارة منقوشة على مقبرة العظماء حاضرة في ذهن الكاتب:
La patrie est reconnaissante aux grands hommes
أي: الوطن يعبّر عن امتنانه للعظماء.
فسطّر إسهامات أستاذه في الفقه، والإدارة، وخدمة المجتمع، ثم اختتم بتكريمه من الوطن، وجوائزه، وأوسمته، معلقًا بالقول:
A une telle personnalité, il est normal que la patrie soit reconnaissante
“لمثل هذه الشخصية، من الطبيعي أن يشعر الوطن بالامتنان.”

ومن هذه الوقائع النبيلة، ينتقل بنا أستاذنا الدكتور أحمد عبد الظاهر إلى زاوية نقدية وإصلاحية، مؤكدًا أن موضوع الدكتوراه الفخرية – على سموه ورمزيته – قد أصيب في السنوات الأخيرة بما يشبه الفوضى، وأضحى في بعض الأوساط وسيلة للمباهاة، بل سلعة للتسويق، تُمنح في غير مواضعها، وتُهدر قيمتها، وتُمسخ دلالتها، كما يُسخّر الذهب ليصنع منه طبل أجوف. لذا، يدعو الدكتور عبد الظاهر – وهو الخبير القانوني العميق – إلى ضرورة تنظيم قانوني شامل للدكتوراه الفخرية، لا يدع لبسًا في معايير المنح، ولا يترك الباب مفتوحًا للهوى أو المصالح الشخصية.

وهي دعوة صادقة لا غبار عليها، خاصة في ظل غياب قانون ينظم هذا الشأن في معظم دول العالم. ولعل لائحة منح الدكتوراه الفخرية بجامعة الشارقة، الصادرة بقرار رئيس الجامعة رقم 13 لسنة 2020م، تعد من المحاولات الجادة النادرة في هذا السياق العربي.

إننا نؤيد هذه الدعوة بكل جوارحنا، ونرى أنه قد آن الأوان لصياغة تشريع عربي موحد، يرسي قواعد واضحة، ويعيد للدكتوراه الفخرية هيبتها ومكانتها، فلا تُمنح إلا لأهلها، ولا تُعلق إلا على صدور من أثقلوا ميزان الحضارة بعلم أو نضال أو خدمة عامة ذات شأن، كما تُعلق الأوسمة على صدور القادة بعد معركة نصر مشهود.

وفي الختام، نترحم على شيخ القانون الجنائي، معالي الأستاذ الدكتور محمود نجيب حسني، الذي قدم نموذجًا خالدًا للعالم المتمسك بميزان العدالة، المتسلح بضمير العلم، والمترفّع عن دنيا التزلف والمصالح. لقد صدق فيه قول الشاعر:

يموت رجاج العقل والدين والتقى
وتبقى المكارم في العقول بواقيًا

رحم الله من علم فأخلص، وزهد فارتفع، وترك لنا أثرًا لا يمحوه الزمان، كما لا يمحى نور القمر من ذاكرة الليل.


 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى