اختيارات المحررينمقتطفات قارئ الأخبار

استعراض القوة في التشريع المصري: فوضى النصوص وتشظي العدالة

استعراض القوة في التشريع المصري

1. المقدمة: القانون بين الفوضى والانسجام
ولما كان القانون هو النَّسغ الذي يغذي جسد المجتمع، وما انفك يُعتبر معيار العدالة الذي لا غرو عليه أن يُثبت تماسكه؛ فإن التشريع المصري في قضية “استعراض القوة” يشبه عاصفةً هوجاء تُذرِّى الرمال في عيون العدالة. حيث إن النصوص التشريعية تتحول إلى ساحة معركة تتصارع فيها المفاهيم، وتتشتت الحقوق كأوراق الخريف، ولا حين غرو تصبح الكلمات طائشةً تشبه السهام المسمومة؛ تُصيب الهدف أحيانًا وتخطئه في أحيان أكثر، مما يُحوّل القانون من حارس للعدل إلى سجانٍ لها.

2. التناقض التشريعي: ثلاث وجهات لقاضٍ واحد
أتراه جرمًا واحدًا بثلاثة وجوه أم جرائم متباينة يجمعها خيط واهٍ من التشابه؟ وما انفك جاءت جريمة “استعراض القوة” في مصر موزعةً على ثلاث نصوص تشريعية، كأنما المشرع يُمسك بمرآةٍ مكسورة؛ كل قطعةٍ منها تعكس وجهًا مختلفًا للحقيقة. ففي قانون العقوبات المصري ( رقم 58 لسنة 1937) نجد المادة 375 مكرر، وفي ذات القانون المادة 309 مكرر ب، بينما يأتي قانون الأسلحة والذخائر المعدل بالقانون رقم 163 لسنة 2022 بمادة 26 مكرر ب؛ فجاءت هذه النصوص كأنها ثلاثة أنهار تصب في بحر واحد، غير أن لكل نهر لونه وطبيعته، مما يجعل العدالة القانونية تتأرجح بين المد والجزر دون استقرار.

3. استعراض القوة كصورة من صور البلطجة (المادة 375 مكرر من قانون العقوبات المصري – رقم 58 لسنة 1937)
ولما كان المشرع قد نظر إلى استعراض القوة بوصفه أداةً للقهر والترويع، فقد عَدَّه صورةً صريحة من صور البلطجة؛ حيث يكون الفعل ماديًا محسوسًا، تستشعره الأبصار وترتعد منه الأفئدة. ولا غرو أن السلاح في اليد والتهديد الجلي، يجعل من العدوان أقرب ما يكون إلى الوحشية العارية؛ إذ يتجلَّى هنا الجاني كمن يُبدي عدوانه دون مجاملة، ولا مجال للمواربة أو التأويل.

4. استعراض القوة كتنمر (المادة 309 مكرر ب الصادرة بالقانون رقم ١٨٩ لسنة ٢٠٢٠ والمعدل بالقانون رقم ١٨٥ لسنة ٢٠٢٣ من قانون العقوبات المصري – رقم 58 لسنة 1937)
وفي حين عالج النص الأول الجريمة على نحو مادي، جاء قانون التنمر ليضفي بعدًا نفسيًا واجتماعيًا؛ فجعل استعراض القوة جريمةً حتى وإن كان غير ملموس، بل قد يكفي أن يكون المتهم صاحب هيمنة اجتماعية أو نفوذ معنوي ليُعد فعله تنمرًا. وكأن القانون هنا أراد أن يقتص للضحايا من ذلك الذئب الذي لا يعوي، لكنه ينهش في الصمت؛ ذلك الذي لا يحمل سلاحًا، ولكنه يغرس أنيابه في قلوب الضعفاء بسخريةٍ مهينة وتكبرٍ مقيت.

استعراض القوة في التشريع المصري

5. استعراض القوة في الفضاء الرقمي (المادة 26 مكرر ب من قانون الأسلحة والذخائر المعدل بالقانون رقم 163 لسنة 2022)
ولا غرو أن العالم قد تجاوز حدود الشوارع والأزقة، وما انفك أدرك القانون أن الفضاء الافتراضي بات ساحةً جديدة للتهديد والتباهي؛ فجاءت المادة 26 مكرر ب من قانون الأسلحة والذخائر المعدل بالقانون رقم 163 لسنة 2022 لتؤثم مجرد التباهي بالقوة عبر الإنترنت. وفي حين لا يلزم أن يكون التهديد موجهًا لشخص بعينه أو أن يكون الفعل متبوعًا بعنف مباشر، يكفي أن ينشر المرء صورة سلاحٍ أو يُظهر قدراته القتالية في تسجيل مصور، فيجد نفسه حينئذَ في قبضة القانون.

6. إشكالية التداخل التشريعي بين تضارب العقوبات وغموض المفاهيم
ما انفك تؤثر هذه التعددية في النصوص على تطبيق العدالة؛ إذ لم تأتِ النصوص في نسق متكامل، بل جاءت أشبه بالفسيفساء القانونية التي تفتقر إلى الانسجام. إذ يُطرح سؤال: هل يُحاكم الجاني بتهمة البلطجة، أم بالتنمر، أم بالجريمة الرقمية؟ ولا حين غرو تتداخل الجرائم، فهل يجوز معاقبته تحت أكثر من نص أم أن العقوبة الأشد تغني عن غيرها؟ وكيف يُعاقب من يُشهر السلاح بعقوبة أشد من ذاك الذي يستعرض جبروته النفسية على الضحايا؛ أو كيف يُدان من يعرض قوته على الإنترنت دون أن يهدد أحدًا بعقوبة تقترب من عقوبة الاعتداء الفعلي؟ وفي هذه المتاهة التشريعية، ما انفك يبرز غياب تعريف جامع لاستعراض القوة؛ إذ لم يقدم المشرع تعريفًا محددًا لهذا السلوك، تاركًا الأمر لتقدير القضاء، مما يفتح الباب على مصراعيه لاجتهادات قد تتناقض أو تتضارب.

7. الحاجة إلى نهج تشريعي صارم يعيد التوازن بين النصوص القانونية
وفي ظل هذا المشهد القانوني الملتبس، ما انفك تقتضي معالجة جذرية لا ترقيعًا مؤقتًا ولا حلولًا تلفيقية تزيد الطين بلة؛ بل يجب اتباع نهج تشريعي صارم يقوم على تعريف استعراض القوة تعريفًا جامعًا مانعًا؛ لا يترك للقاضي مساحة غير محسوبة للاجتهاد، ولا يُفتح باب التأويل المفرط الذي قد يُضيّع الحقوق أو يُوقع ظلمًا. وبالدرجة الأولى، ينبغي إعادة تصنيف الجرائم بحيث تكون متسقة مع طبيعة الفعل لا مع ألفاظ متباينة؛ فبدلًا من تبديد النصوص بين قوانين متعددة، يمكن إدماجها تحت مظلة تشريعية واحدة تُحدد أركان الجريمة وعناصرها بوضوح. ولا غرو أن التكرار التشريعي دون ضرورة يؤدي إلى التشويش ويضعف من هيبة القانون؛ فضلًا عن ضرورة وضع معايير ملزمة لتفسير النصوص بحيث يتم توحيد الأحكام القضائية، فلا يقع القاضي بين شقي الرحى: أحدهما يفرض التشدد والآخر يدعو إلى التيسير.

8. التوصية للمشرع بضرورة إحكام الصياغة التشريعية وتجنب المصطلحات الفضفاضة
ولما كان القلم الذي يخط التشريعات هو ميزان العدالة الأول، وما انفك يُظهر أن اهتزازه يؤدي إلى زعزعة استقرار النظام القانوني؛ فإن اختلال يده يجعل الميزان مختلًا، وإن سقط في فخ الاستعمال العشوائي للمفردات القانونية، صار القانون أداةً للظلم والتضليل. ولا غرو أن المشرع، بوصفه الحارس الأول للعدالة، عليه أن يتحرى الدقة في اختيار الألفاظ القانونية بحيث تكون واضحة وقاطعة، لا تحتمل التأويل المفرط، ولا تترك مجالًا لاجتهادات متباينة قد تُحدث تناقضًا قضائيًا.
وبالدرجة الأولى، نوصي المشرع بأن يضع نصب عينيه عند صياغة النصوص القانونية القواعد التالية:
أولًا: تجنب استخدام مصطلحات قانونية غير دقيقة تفتقر إلى التحديد؛ فمصطلح “استعراض القوة” ينبغي أن يُعرَّف بوضوح دون ترك مجال للتأويل.
ثانيًا: الحد من التكرار التشريعي الذي يخلق تعارضًا بين النصوص ويُربك القاضي؛ فلا يجوز أن يُجرَّم الفعل ذاته تحت مظلات قانونية متعددة دون مبرر واضح.
ثالثًا: وضع معايير إلزامية لتفسير النصوص القانونية، بحيث تُوضع منهجية واضحة في تأويلها، فلا يُترك المجال لاجتهادات متباينة تُحدث تفاوتًا في الأحكام القضائية.
رابعًا: مراجعة التشريعات القائمة بهدف تنقيحها من المصطلحات غير المحكمة والتأكد من أن كل نص يخدم غايته التشريعية دون تداخل مع غيره؛ فالهدف الأسمى للقانون ليس مجرد تنظيم المجتمع، بل تحقيق عدالة تُدركها العقول قبل أن تُفرضها النصوص.
خامسًا: الابتعاد عن استيراد مصطلحات قانونية من تشريعات أجنبية دون تمحيص دقيق، لما انفك قد تؤدي هذه المصطلحات إلى تشويش المفاهيم عند تطبيقها محليًا؛ إذ إن التشريع ليس مجرد كلمات تُدوَّن في الصحف الرسمية، بل هو ميثاق العدالة الأول؛ فإذا لم يكن محكمًا، صار كالشبكة المهترئة التي تتسرب منها الحقوق ويتسلل منها الظلم.

استعراض القوة في التشريع المصري
استعراض القوة في التشريع المصري

9. الخاتمة: العدالة بين شروق التشريع وغروب الفوضى
ولا غرو أن غاية التشريع هي تحقيق العدل؛ ولكن هذا العدل يظل سرابًا إذا ما ظلت النصوص متداخلة وأحكامها متضاربة، إذ يغدو القانون حينئذ كالسيف ذي الحدين؛ قد يضرب الظالم، ولكنه قد يقطع يد المظلوم أيضًا. وما انفك تتجلَّى ضرورة وضع حد لهذه الفوضى التشريعية؛ فلا يجوز أن يصبح استعراض القوة، بدلًا من كونه جريمة، وسيلةً للنجاة من ثغرات القانون.
فهل نرى قريبًا نهضة تشريعية تُعيد النصوص إلى نصابها، وتصوغ العدالة بقلمٍ لا يرتجف ولسانٍ لا يتلعثم؟ أم سيظل هذا التداخل قائمًا، فتظل العدالة رهينة الفوضى التشريعية، تائهةً بين نصوص متشابكة، لا حين غرو يفك القاضي خيوطها، ولا أتراه المتهم قادرًا على النجاة من شراكها؟

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

لاستكمال رحلتك في محتوانا لابد من إيقاف حاجب الإعلانات