قانون

التشريح قبل التشريع (منهجية قياس أثر التشريعات أنموذجاً )

بقلم:الدكتور أحمد الطيار محاضر منتدب بكليات الحقوق والآداب جامعة الإسكندرية

مقدمة:

يتنامى تخبط التشريعات كلما أرتدت بمضامينها وسياقتها وأثرها إلى الوراء ، فغياب الرؤية والإعتماد على أن القوانين وليدة اللحظة وإفتقاد الخطة المنسقة المسبقة فى أجندة تشريعية محكومة تتولى تنفيذها المجالس النيابية يساهم فى وجود ترسانة قانونية مُتفرعة لاتعالج القضايا الجوهرية . فتجسدت ظاهرة إختناق التغيير بتشريعات (تولد ميته وتدور فى حلقة مفرغة)تتضح مقوماتها فى إتباع سياسة الإحتواء .
فمن ضرورات النظم السياسية الجديدة إعادة صياغة البنيان القانونى بيهكله وتحديد أولوياته تبعاً لفلسفة إنتاج التشريعات المعاصرة . فلابد من تبنى منهجية قياس أثر التشريعات والتى تعد مؤشراً ناجحاً فى تحسين جودة وإجادة فن التشريعات ، فماهو إطارها ومضامينها من خلال نطاقها النظرى ؟ وماهى إجراءاتها ؟ .

أولاً / مضامين وتعاريف للمنهجية :

 

يقصد بها ( الإحاطة الكاملة والدقيقة بأبعاد التشريعات أملاً فى تصنيفها ومعرفة تكاليفها ومدى تأثر الخاضعين لأحكامها سلباً أوإيجاباً بتبيان منافعها وأولوياتها وتحسين جودتها ). لذا فهى ألية قياسية نظامية ترصد مؤشرات القوانين قبل أصدارها لتدرس الإمكانيات المادية والفنية التى يفتقدها أى قانون حتى يلقى قبولاً عاماً فى التطبيق .
فهى أداة تحليلية كاشفة للنواحى التنظيمية والإجرائية والفنية التى تحيط بالتشريع ومعرفة نتائجه وبواعثه جسماً وروحاً سلباً وإيجاباً للتدليل على أغراض التشريع لتحسين جودته ورفع فاعليته .
فيوفر على صانع القرار التشريعى معرفة الأثر الناتج من تطبيق القانون على القضايا المحورية كالفقر والفساد والبطالة والدين..الخ . ويحدد البدائل التى تحفز السياسات القانونية وتقييمها من خلال التأكد من توازن فوائد القانون مع تكاليفه وقدرته على أضافة متغيرات تكرس للشفافية تسمح بمتابعة الرقابة على تنفيذه عن طريق أعطاء معلومات متسقة عن فهم غرضه لغير القانونيين .
ويتكامل مع هذه المنهجية دراسة الخلل الكمى والكيفى للموظف المنحرف للوقوف على أفضل التشريعات الحاسمة لحل مشاكل الإنحراف الوظيفى ، فتفرز السياسات الوقائية حلولاً جوهرية بهدف معرفة أثر القوانين الوظيفية على ضبط سلوكيات المنحرف وكشف بواطن الإنحراف ومعرفة اثاره .

ثانياً / فوائد منهجية قياس أثر التشريعات :

تنتشل المنهجية النظام القانونى من عشوائية الإصلاح والتصدى لتشريعات المفاجأت والمناسبات والتى لاتستند لمرجعية أوحكمة أوغائية لصدورها . فلايجب أن تذوب هوية الدولة تحت مزاعم تحديث أهوج للتشريعات لم يستفد منه غير واضعوه ؛ ولهذا تظل مؤسسات وأجهزة اى دولة لاتقوى على التحديث المنظم خاضعة مرتعشة مما عجل بفشل التحديث وحطم البنيان القانونى القديم فلاسبيل لإنتشال الأمر من عثرته إلا بتطبيق اليات المنهجية بإعادة صياغة التشريعات لمايتواكب مع العصر .
و تحدد المنهجية نطاق الأجندة التشريعية فى بداية عمل البرلمانات لتشمل على النطاق الأفقى لمجموعة القوانين المكملة للدستور ثم تليها القوانين الجنائية والمتعلقة بالحريات وضماناتها ، ثم القوانين التى تؤثر على أقتصاد البلاد لخوض غمار التنمية ثم باقى القوانين الفرعية الأخرى حتى يبتعد البرلمان عن الإرتجالية .
فلابد من تبنى منهجية تصف بصدق ماهى الأسباب الداعية لصدور قانون جديد أو حتى تعديله أو إلغاءه ، ويتكامل مع هذه الخطوة معرفة مدى نجاح السياسات الحكومية وغير الحكومية لتنفيذ الهدف المنتظر من التشريع الجديد فلابد من تشريحه قبل تشريعه ؛ فكلما صدرت حزمة تشريعات لاتوفى إحتياجات الحياة العملية والواقع فإن الحلقة المفرغة ستستمر والفساد يصبح أكثر عنفوناً فالمنهجية تدرس مقاصد التشريع وإحتياجات الواقع فى محاولة لسد ثغرات لانهائية يكشف عنها التطبيق . كما أن منهجية قياس أثر التشريعات تُفيد ضرورة التحلى بالخبرة الفنية فى صياغة القوانين بما ينتج تشريعات أكثر فعالية ، وكلما كانت مدخلات القانون جيدة كلما كانت مخرجاته مثمرة تحارب الإنحراف الوظيفى فى عقر داره وتلبى حاجات الشعب بتلقائية ؛ فالمنهجية تسعى لحوكمة التشريعات وحصرها وتصنيفها وتقسيمها وترتيبها وهى فوائد عظمى تحقق التحديث التشريعى وتلبية متطلبات الواقع من خلال رصد وتوسيع المبادرات الشعبية وتحقيق أمالهم . وقد أدخل المشرع الفرنسى فى قانون العقوبات المادة (130-1) بموجب القانون رقم (896) لسنة 2014بشأن تفريد الأحكام وتعزيز فعالية العقوبات الجنائية من أجل منع الجرائم وإعادة التوازن الإجتماعى الذى تخرقه الجريمة وحماية المجتمع والضحية وإستعادة تأهيل الجانى مرة أخرى .

ثالثاً / اليات تطبيق المنهجية :

تنطلق من أولى مراحل تطبيق الأليات من رسم بدائل كافية للسياسات التشريعية أياً كان نوعها – إدارية أوجنائية أوحتى فى إطارها الأعلى سياسة دستورية – فمن خلال تصحيح المفاهيم القانونية وإزالة التصورات الخاطئة وتمهيد البيئة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية لإستقبال التشريع هنا تصبح فرص توحيد الأحكام أكثر نفعية .
فلابد وأن تنطلق من خطة قومية نابعة من صدق ونقاء بواعثها وأهدافها فلاتكون مجرد خطة وقتية يستهدف بها أي نظام تجميل أركانه بين البلدان التى خاضت التغيير بواقعية وفعالية .
فلكى تنطبق هذه المنهجية يتعين أن تتحدد معالم أهدافها المتشعبة فقد تكون (اليات تحليلية ) تدرس الإجراءات التشريعية لأى قانون وتوضح مضمونه وأثاره وتكاليفه وتصارح الأفراد بالسياسات المتبعة معه وتبصرهم بمقدار المنافع والمضار ودرجات الإرتداد فى الضمانات التى كان يكرسها قانون سابق ، كما تجرى مقارنات تحليلية تحديثية تبين مدى التقدم الذى قطعه القانون الجديد وفوائده .
وقد تكون( اليات تنسيقية ) وفيها تدمج كل أهدافها مع ماينبثق عنها من سياسات بعقلانية لضمان زيادة الفاعلية ، فيتم التنسيق والتكامل بين علاقات متشعبة منها المؤسسات الدستورية الحاكمة والأجهزة الرقابية والمواقع التنفيذية حتى لاتتنازع السلطات وتتعارض الأحكام وتتحدد أدوار كل منها فى سياق التنسيق والتخطيط والتنفيذ .
وقد تكون ( اليات تشاورية ) ينفسح بداخلها المجال لإستقطاب شرائح المخاطبين بأحكام القانون ليدور حوار مجتمعى فى فلك الشفافية والمساواة فى بسط الأحكام وتحديد المسئولية فى إطار صياغة فنية تتضمن تلقائية تطبيقه . كما لاينبغى أن تتجاهل القوانين الجديد ضرورة الإستماع إلى الشرائح الأكثر إستخداماً للقانون المزمع أصداره عموماً .

هذا وقد عبرت المحكمة الدستورية العليا عن ضرورة تبنى منهجية قانونية تقوم على أسس قويمة متكاملة بقولها ( أن الإلزام القانونى لايتولد عن مضمون القاعدة القانونية ، أو عن صفة مصدرها ، أو رغبة فى توقى الجزاء ولكنه يتولد عن عامل خارجى هو مدى تعبير وتجاوب القاعدة القانونية مع الأهداف الاجتماعية والتى ترتكز على العدالة والمساواة ، قالقيمة الحقيقية للقانون وجوهر مبدأ سيادته ليست كامنة فى حسن صياغته أو فى حبكته القانونية أوفى إلمامه بكافة مناحى الحياة فى المجتمع ولكنها تكمن فى عدالته وفى تجرده وعموميته فى التطبيق فضلاً عن حمايته للحقوق والحريات فى مواجهة السلطة إذا ما إنحرفت عن حدودها وغاياتها فيتحقق الهدف وعدالة التطبيق معاً .
لذا يقتضى الأمر التشريح قبل التشريع وأمتلاك فن الإجادة قبل البحث عن الجودة ؛ فبتشريح القانون وإستخلاص مواده الأولية يحوز العضو المنوط بالتشريع أساسيات إجادة معطياته فيتصرف مع تعقيداته بلاضجر ويسد فراغاته بحكمة يستلهمها من حيازة مفاتيح القانون وعقلية المخاطبين بأحكامه وبالتالى يعبر القانون عن إرادة المجتمع .
ونرى أن أي قانون له جانبان أحدهما فنى يتعلق بالقالب النموذجى لمضمونه القانونى بحيث تنسجم أجزاءه وتترابط مقوماته فلاتتعارض أحكامه فيسهل تطبيقه ويجد الإلتزام الطوعى تلقائياً وهى عملية لاتثير مشقة إذا يحسن صناعتها فئة القانونيين ، كالنص الجنائى من شقين أحدهما للتكليف والأخر للجزاء .
والجانب الثانى هو وضع إطار عام لمضمونه الواقعى ومحتواه الفعلى ( المادة الخام ) ؛ فمثلاُ إنتاج قانون للإستثمار أو للصناعة أوالتعليم فلاسبيل لإستخلاص جزئيات القانون المراد إنتاجه إلا من أهل التخصص كالمستثمر والصانع والمعلم على التوالى . فهم أدرى وأعلم بمشاكل واقعهم ويمتلكون القدرات المتخصصة لحسمها نظراً للمعايشة الدائمة والإلتصاق بالمشكلات ، ولايمكن إن تخرج ثنايا هذه القوانين من رجل القانون المجرد مهما أوتى من المهارة والحذق . لذا فأن التشريح ضرورة قبل التشريع تتجسد في ضرورة تبنى سياقات جديدة لمنهجية قياس أثر التشريعات مثلما فعلت العديد من الدول في العصر الرهن .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

لاستكمال رحلتك في محتوانا لابد من إيقاف حاجب الإعلانات