اختيارات المحررين

العدالة بين ميزان القانون وأفق الشريعة 

العدالة بين ميزان القانون وأفق الشريعة

العدالة ليست مجرد مفهوم يُدرّس في الأكاديميات القانونية أو تُلقى حوله المحاضرات الدينية، بل هي جوهر حياة الإنسان وروح النظم الاجتماعية. هي الركيزة التي تستند إليها الحضارات في بناء مجتمعات متوازنة، حيث تُحترم الحقوق، وتُصان الكرامات، ويُقام العدل في توزيع الواجبات والمسؤوليات. إن الحديث عن العدالة يتطلب استقراء عمقها في بُعدين أساسيين: القانون الوضعي الذي يمثل النظام البشري، والشريعة الإسلامية التي تستمد قوتها من الوحي الإلهي.
مفهوم العدالة في القانون
العدالة في القانون الوضعي تعني تطبيق القواعد القانونية على نحو يضمن تحقيق الإنصاف والمساواة بين الأفراد. القانون الوضعي هو نتاج الفكر البشري الذي يسعى لضبط العلاقات الاجتماعية وتحقيق النظام. وقد عرّف الفيلسوف الفرنسي مونتسكيو العدالة بأنها “إرادة مستمرة ودائمة لإعطاء كل ذي حق حقه”.
لكن تحقيق العدالة في القانون الوضعي ليس دائمًا بالأمر اليسير، إذ أن القانون، رغم دقته، قد يُترك أحيانًا للتأويل والاجتهاد. فمثلاً، في قضايا تعارض المصالح، نجد أن القوانين تصطدم أحيانًا بحالات لم يكن واضعوها يتوقعونها، مما يستدعي من القضاة الاجتهاد في تطبيق النصوص بما يحقق الغاية العظمى: تحقيق العدالة.
تطبيق العدالة في قضايا تعارض المصالح
تعارض المصالح هو من أخطر التحديات التي تواجه العدالة القانونية. وهو وضع يجد فيه الفرد نفسه في موضع تتعارض فيه واجباته تجاه طرفين أو أكثر. مثال ذلك هو تصرف الوكيل القانوني الذي يمثل مصالح طرفين متعارضين. ففي حكمٍ بارزٍ لمحكمة النقض، أكدت المحكمة أن الجمع بين تمثيل طرفين متنازعين مع وجود تضارب في المصالح يُعتبر خيانة صريحة للأمانة.
الحكم جاء ليكرس مبدأً قانونيًا وأخلاقيًا بالغ الأهمية: الوكيل مؤتمنٌ على مصالح موكله. فإذا أخلّ بهذه الثقة، كأن يقوم بتمثيل طرفين متعارضين في نزاعٍ واحد، فإنه لا يُعتبر فقط مخلاً بواجباته، بل هو مذنب بإفساد العدالة نفسها. وقد اعتبرت المحكمة أن أي حكم أو تصرف يُبنى على هذا الخلل يكون باطلاً من أساسه.
العدالة في الشريعة الإسلامية: نموذج من الكمال الإلهي
إذا انتقلنا إلى الشريعة الإسلامية، نجد أن العدالة لا تقتصر على الجانب الإجرائي، بل تتعداه إلى أن تكون قيمة روحية وواجبًا أخلاقيًا. العدالة في الإسلام تستمد قوتها من الإيمان بأن الله سبحانه وتعالى هو العدل المطلق، وهو الذي أمر بالعدل ونهى عن الظلم. يقول الله تعالى: “إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ” (النساء: 58).
أمثلة من السنة النبوية
النبي محمد صلى الله عليه وسلم كان مثالاً للعدل في حياته كلها. ففي حادثة شهيرة، سرقت امرأة من بني مخزوم، فأراد بعض الصحابة أن يشفعوا لها لتجنب العقوبة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: “وأيم الله، لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها” (رواه البخاري). هذا الموقف يبرز قيمة العدالة المطلقة في الإسلام، حيث لا فرق بين غني وفقير، ولا بين قريب وغريب، في تطبيق العقوبة إذا ثبت الجرم.
المقاصد الشرعية والعدالة 
الشريعة الإسلامية ليست مجرد مجموعة من الأحكام الجافة، بل هي نظام متكامل يهدف إلى تحقيق مقاصد عليا، من أبرزها:
1. حفظ النفس: تطبيق القصاص لحفظ الأرواح وضمان الأمن المجتمعي.
2. حفظ المال: التشديد على ردع الغش والخيانة، كما في قوله صلى الله عليه وسلم: “من غش فليس منا” (رواه مسلم).
3. حفظ العرض: تجريم القذف والاتهام الباطل، تأكيدًا على صيانة كرامة الإنسان.
بين القانون والشريعة: لقاء على أرض العدالة
رغم الفارق الظاهري بين القانون الوضعي والشريعة الإسلامية، إلا أن كلا النظامين يسعى لتحقيق العدالة بوصفها الغاية الأسمى. ففي حين يعتمد القانون الوضعي على نصوص تُسن وفقًا لاحتياجات المجتمع، تعتمد الشريعة الإسلامية على نصوص ربانية تحتكم إلى مقاصد ثابتة ومرنة في آنٍ معًا.
على سبيل المثال، قضايا تعارض المصالح والغش تجد لها أصولاً واضحة في كلا النظامين. ففي القانون، يُعتبر أي تصرف ينطوي على غش أو تواطؤ سببًا لبطلان العقد. وفي الشريعة، يُحرَّم ذلك تحريمًا قاطعًا، كما في الحديث النبوي: “المسلمون على شروطهم، إلا شرطًا أحل حرامًا أو حرم حلالاً” (رواه الترمذي).
العدالة الاجتماعية: مسؤولية الجميع
العدالة ليست مجرد مسؤولية تُلقى على عاتق القضاء أو القوانين، بل هي واجب جماعي على كل فرد في المجتمع. فالعدالة الاجتماعية تعني توزيع الموارد بشكل عادل، وضمان تكافؤ الفرص، ومحاربة الفساد. يقول الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه: “لو عثرت بغلة في العراق لسُئلت عنها: لمَ لمْ تمهد لها الطريق يا عمر؟”.
هذا المفهوم العميق للعدالة الاجتماعية يظهر بوضوح في سياسات الدولة الإسلامية الأولى التي قامت على توزيع الزكاة، وضمان حقوق الفقراء والمحتاجين، ومعاقبة من يسيء استخدام السلطة أو الثروة.
رؤية تأملية
إن العدالة ليست مجرد مبدأ قانوني أو ديني، بل هي روح الحضارات. عندما تتحقق العدالة، تزدهر المجتمعات، وعندما تُهدر، تُكتب فصول انهيارها. ولعل من أعظم صور العدالة ذلك التوازن الذي تجسده الشريعة الإسلامية بين حق الفرد وحق المجتمع، بين الحرية والمسؤولية، وبين العقاب والرحمة.
كلمة ختام
في نهاية المطاف، يبقى الهدف الأسمى لكل نظام قانوني وديني هو تحقيق العدالة. وإذا كنا نسعى لعالمٍ أفضل، فعلينا أن نستقي دروسًا من هذا التزاوج الفريد بين القانون والشريعة. العدالة ليست شعارًا، بل عملٌ يوميٌ وجهدٌ مستمرٌ لتحقيق التوازن في حياة الأفراد والمجتمعات.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

لاستكمال رحلتك في محتوانا لابد من إيقاف حاجب الإعلانات