توسع القضاء المصري في تحديد مفهوم الفاعل الأصلي للجريمة
أولاً :مقدمة:
لما كان الفقه القانوني قد درج على التفرقة بين الفاعل الأصلي والشريك وفقًا لدوره في الجريمة، فقد جاء القضاء المصري ليعيد النظر في هذا التقسيم بمفهومٍ أكثر اتساعًا، يُلامس جوهر السلوك الإجرامي لا مجرد صورته الظاهرة. إذ لم يعد الفاعل الأصلي هو من باشر تنفيذ الجريمة ماديًا فحسب، بل صار يشمل كل من اضطلع بدورٍ رئيسيٍ في تحقيقها، ولو بدا فعله – من حيث الظاهر – مجرد إعدادٍ أو تحضير. جوهر التوسع في مفهوم الفاعل الأصلي إن التفرقة بين الفاعل والشريك لم تعد قاصرةً على معيار المباشرة في التنفيذ، إذ ما انفك القضاء يرسّخ رؤية أكثر دقةً، قوامها النظر إلى الدور الجوهري في وقوع الجريمة لا إلى شكله الظاهري. وحيث إن المادة 39 من قانون العقوبات المصري قد جاءت بفكرة “الفاعل المعنوي”، فقد أصبح سيّان أن يكون الجاني ممسكًا بالسلاح في مسرح الجريمة، أو يكون من حرّض وأدار الخطة بطريقةٍ تجعل منه العقل المدبر، أو حتى من تهيأت الجريمة بفعله وكان حلقة الوصل في تحقيقها. ففي جرائم التزوير، لا غرو أن المزور الذي يصطنع المستندات بيده فاعلٌ أصلي، ولكن ماذا عن الموظف الذي يهيئ له الأوراق الرسمية، أو يسهّل له الإدراج في السجلات الرسمية؟ أليس هو الآخر فاعلًا أصليًا، وقد ران على قلبه الفساد حتى صار دوره أكثر خطورةً من دور المزور ذاته؟ وفي جرائم القتل العمد، إن من يسدد الطعنات القاتلة هو بلا شك الفاعل المباشر، ولكن ماذا عن ذلك الذي يتولى استدراج المجني عليه إلى المصيدة؟ أليس هو بمثابة اليد الخفية التي صنعت الجريمة، حتى وإن لم يلوث يده بالدماء؟
ولما كان القضاء قد استقر على أن المساهمة الأصلية في الجريمة لا تنحصر في الفعل التنفيذي المباشر، فقد جاء اجتهاده ليضع حدًّا لكل تأويلٍ قد يُستغل للالتفاف على العدالة، مؤكدًا أن الفاعل الأصلي ليس فقط من أطلق الرصاصة، أو من طعن بالخنجر، بل هو أيضًا كل من اضطلع بدورٍ جوهري في إتمام الجريمة، بحيث لولاه لما أمكن لها أن تقع. وحيث إن الجريمة ليست عملًا فرديًا منعزلًا، بل هي في كثيرٍ من الأحيان أشبه ببناءٍ متكامل، يشيد كل فاعلٍ فيه جدارًا، فقد أصبح من الضروري التعامل مع المجرمين وفق أدوارهم الحقيقية، لا وفق تقسيمات شكلية قد تفضي إلى نجاة العقول المدبرة. فليس من قبيل الإنصاف أن يُعدّ من يراقب الطريق أثناء تنفيذ السرقة مجرد شريكٍ ثانوي، بينما هو في الواقع عين السارق التي تحرسه، وأمانه الذي يطمئنه، وكذا من يقطع التيار الكهربائي عن كاميرات المراقبة أثناء جريمة السطو، أو من يهرّب سلاح الجريمة قبل وقوعها، فهؤلاء ليسوا مجرّد مساهمين، بل هم أركانٌ قائمةٌ بذاتها، كأوتاد الخيمة التي بدونها لا تقوم. وما انفكّ القضاء يرسّخ هذا الفهم، إذ إن العدل لا يُبنى على التسميات الشكلية، بل على الحقائق الموضوعية، فكما أن قائد السفينة الذي يرسم المسار الخاطئ نحو الغرق لا يقل جرمًا عن البحّار الذي يخرق القارب، فكذلك من يهيئ للجريمة طريقها، ويزيل العقبات من أمامها، هو بلا ريب فاعلٌ أصليٌّ، لا مجرد شريكٍ تابع. وفي حين قد يرى البعض أن التمييز بين الفاعل الأصلي والشريك يجب أن يستند إلى طبيعة الفعل المادي وحده، فإن هذا الفهم قاصر، لأن الجريمة لا تتحقق بالفعل المنفّذ فقط، بل بمجمل الأدوار التي أوصلت إليها. فكيف يُعقل أن نساوي بين من قدّم مجرد نصيحة عابرة لمنفّذ الجريمة، ومن خطّط له خطوته الأولى، وفتح له الباب، وأمّن له المخرج؟ أتراه عدلًا أن يُمسك القانون بمن نفّذ الجريمة، بينما يفلت من مهد لها الأرض، كما لو كان الحطب بريئًا من النار، رغم أنه هو من غذّاها؟ إن العدل لا يكون عدلًا إذا ترك الفاعل الحقيقي ينسلّ من بين ثنايا القانون كالماء الذي يتسرّب بين الأصابع، بل يكون عدلًا حينما يصيب كل مجرمٍ وفق دوره وحقيقته، لا وفق الصورة التي يريد أن يظهر بها.
ثالثاً: الأثر القانوني لهذا التوسع:
ولما كان العدل هو الميزان الذي تستقيم به المجتمعات، وكان الإفلات من العقاب هو المعول الذي يهدم أركانها، فقد بات من المحتم على القضاء أن يسدّ كل ثغرة قد ينفذ منها المجرمون، وألا يكون أسيرًا لمعيارٍ تقليديٍّ يحصر المسؤولية الجنائية في حدود التنفيذ المادي، فيغفل بذلك عن العقول المدبرة، التي وإن لم تحمل الخنجر بيدها، فقد كانت هي التي سنّت نصله، وهيأت المسرح لارتكاب الجريمة. وحيث إن الجريمة ليست ضربًا من الطيش العابر، بل نسيجٌ متشابكٌ من التخطيط والتدبير والتنفيذ، فقد كان لزامًا على القضاء أن يتجاوز السطح إلى العمق، وأن لا ينخدع بظواهر الأدوار، فيكتفي بمحاسبة من باشر الفعل بيديه، بينما يترك من حرّك الخيوط من وراء ستار بمنأى عن المحاسبة، وكأن العدالة قاضٍ أعمى لا يرى إلا من يقف في دائرة الضوء، ويغفل عمن يتحرك في الظلال. وما انفكّ المجرمون دهاة في التملص من قبضة العدالة، فتراهم يتوارون خلف وكلاءٍ منفّذين، كما تتوارى العناكب في زوايا النسيج، تاركةً لضحاياها أن يقاتلوا خيوطها الواهية، بينما الفاعل الحقيقي يرقب المشهد من بعيد، آمنًا من الحساب. فكيف للعدالة أن تظل صامتة أمام هذا المشهد البائس؟ وكيف لها أن تقبل أن يكون القانون درعًا يحتمي به أولئك الذين يزرعون الشر، لكنهم يحرصون على أن لا تتلطخ أيديهم به مباشرة؟ وفي حين ترى بعض الأنظمة القانونية أن العقاب لا يستحقه إلا من باشر الجريمة ماديًا، فإن هذا التوجه الجديد يكرّس حقيقة أن اليد التي تخطّط وتحرّض، لا تقل إجرامًا عن اليد التي تنفّذ، بل لعلها أشد خطرًا، كما أن العاصفة لا تأتي من الريح وحدها، بل ممن حرّكها في الخفاء وجعلها تهبّ حيث يريد. أتراه عدلًا أن ينجو من أشعل الحريق، لمجرد أنه لم يمسك بعود الثقاب بيديه؟ أهو إنصاف أن يُحاكم من يدهشت قدماه في الوحل، بينما يفلت من خطط له أن يسير في ذلك الطريق الموحل؟ إن العدل، إذا لم يكن بصيرًا بالأدوار الحقيقية التي تُحاك بها الجرائم، فلن يكون إلا ميزانًا مائلًا، ينصف المجرمين بدلًا من أن ينصف الضحايا.
رابعاً: الخاتمة:
وحيث إن القضاء المصري قد خطا بهذا الاجتهاد خطوةً واسعة نحو تحقيق عدالةٍ أكثر شمولًا، فقد بات هذا الفهم ضرورةً ملحّة لا تحتمل التراخي، إذ لا يجوز أن يُعامل المجرمون بظاهر أدوارهم، كما لو كان القانون مرآةً تعكس السطح ولا تنفذ إلى الأعماق، بل ينبغي أن يكون عدسةً نافذة، ترى ما وراء المشهد، وتكشف الخيوط الخفية التي تحرك الأحداث نحو الإجرام. ولما كان الإفلات من العقاب هو الثغرة التي تتسلل منها الجريمة لتعيد إنتاج نفسها بأوجهٍ جديدة، فإن التوسع في مفهوم الفاعل الأصلي لم يكن ترفًا فكريًا ولا مجرد نظريةٍ قانونيةٍ معلقة في الهواء، بل كان سدًّا منيعًا، يرصد المجرمين حيث هم، لا حيث يريدون أن يُروا، ويكرّس مبدأً قاطعًا بأن القانون لا يكتفي بالنظر إلى الأفعال بأسمائها، بل يبحث في حقيقتها وجوهرها ومآلاتها، كما أن العدل لا يقنع بمتابعة آثار الأقدام على الرمال، بل يتتبع مصدرها ليصل إلى من صنعها. وما انفكّ بعض المجرمين يتخفّون خلف الأدوار الثانوية، ظنًّا منهم أن الظل يحميهم من وهج العدالة، فإذا بهم كمن يختبئ خلف زجاجٍ شفاف، يحسبه ساترًا، بينما هو في الواقع مرآةٌ تعكس حقيقته أمام القانون. فكيف يُعقل أن يُحاسب القانون من أمسك بالخنجر، ويغض الطرف عن الذي صاغ له نصله، وحدّد له هدفه، ثم وقف متفرجًا على الجريمة كمن لا يد له فيها؟ وفي حين قد يرى البعض أن هذا التوسع يحمّل القانون ما لا يحتمل، فإن الحقيقة غير ذلك، إذ إن الجريمة ليست فعلًا معزولًا، بل هي مشهدٌ متكامل، لا يكتمل إلا بتضافر أدوار متعدّدة، بعضها ظاهرٌ وبعضها خفي، وبعضها مباشرٌ وبعضها تحريضي، لكن النتيجة واحدة. فكما أن النار لا تشتعل بشرارةٍ فقط، بل بحاجةٍ إلى وقودٍ وهواءٍ ومحرّضٍ لها، فكذلك الجريمة لا تقوم على المنفّذ وحده، بل على من صنع لها بيئتها وأشعل فتيلها وأمّن لمنفّذها طريق الهروب. أتراه عدلًا أن يسقط القانون بالشبكة الصغيرة من الأسماك، بينما ينجو الحوت الكبير لأنه سبح في العمق بعيدًا عن السطح؟ أيمكن للعدالة أن تكتفي بقطع الأيدي التي نفّذت، بينما تترك العقول التي أمرت ودبّرت طليقةً بلا حساب؟ كلا، فإن ميزان العدل، إن لم يكن حاسمًا في اقتلاع الجريمة من جذورها، فلا يكون إلا سيفًا يقطع الفروع، ويترك الأصل ينمو من جديد.
يمكنك الاعتماد على فوكس عربى في مسألتي الحقيقة والشفافية نستخدم ملفات تعريف الارتباط وتقنيات التتبع الأخرى لتقديم وتخصيص محتوى الإعلانات، وإتاحة الميزات، وقياس أداء الموقع، وإتاحة مشاركة الوسائط الاجتماعية. يمكنك اختيار تخصيص تفضيلاتك.تعرّف على المزيد حول سياستنا الخاصّة بملفات تعريف الارتباط.
الوظيفية Always active
إذا كنت ترغب في معرفة المزيد عن ملفات الكوكيز التي نستخدمها على موقع فوكس عربي، نود أن نعلمك بأن التخزين التقني أو الوصول إليها ضروريان بشكل صارم لتمكين استخدام خدمة معينة تطلبها بشكل صريح، أو لغرض تنفيذ عملية نقل اتصال عبر شبكة الاتصالات الإلكترونية.
Preferences
The technical storage or access is necessary for the legitimate purpose of storing preferences that are not requested by the subscriber or user.
الاحصاء
إذا كنت ترغب في معرفة المزيد عن ملفات الكوكيز التي نستخدمها على موقع فوكس عربي، نود أن نعلمك بأن التخزين التقني أو الوصول الذي يُستخدم حصريًا للأغراض الإحصائية.The technical storage or access that is used exclusively for anonymous statistical purposes. Without a subpoena, voluntary compliance on the part of your Internet Service Provider, or additional records from a third party, information stored or retrieved for this purpose alone cannot usually be used to identify you.
التسويق
إذا كنت ترغب في معرفة المزيد عن ملفات الكوكيز التي نستخدمها على موقع فوكس عربي، نود أن نعلمك بأن التخزين التقني أو الوصول مطلوب لإنشاء ملفات تعريف المستخدمين لإرسال الإعلانات، أو لتتبع المستخدم على موقع إلكتروني أو عبر عدة مواقع إلكترونية لأغراض تسويقية مشابهة.