النيابة العامة وتطبيقاتها في القرآن الكريم: سلطة الادعاء والدفاع عن الحق وفق المنهج الإلهي
بقلم: د. يوسف الديب

مقدمة
النيابة العامة في القانون الحديث تُعد السلطة المنوطة بتحريك الدعوى الجنائية، ومباشرة التحقيقات، وحماية المجتمع من الجريمة. ولو تأملنا القرآن الكريم، لوجدنا أن هذا الدور لم يكن غائبًا عن التشريع الإلهي، بل كان حاضرًا في صور متعددة تتجلى في أدوار الأنبياء، والمؤمنين، وبعض الشخصيات القرآنية التي ناطها الله بالدفاع عن الحق وإقامة العدل.
وتجلت فكرة النيابة العامة في قصة موسى عليه السلام حينما قتل رجلًا من الأقباط خطأً، فبادر أحد الصالحين إلى تحذيره قائلًا: “يَا مُوسَىٰ إِنَّ ٱلْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَٱخْرُجْ إِنِّى لَكَ مِنَ ٱلنَّـٰصِحِينَ”(القصص: 20). فقد كان هذا الرجل بمثابة عين العدالة، ينقل لموسى ما يُحاك له، مما يعكس دور من يبحث عن الحقيقة ويمنع وقوع الظلم، وهو دور يتشابه مع دور النيابة العامة في تحريك الدعوى لمنع إفلات الجاني من العقاب، أو لحماية الأبرياء من الظلم.
كما يظهر هذا الدور في قصة يوسف عليه السلام عندما قامت امرأة العزيز باتهامه ظلمًا، وجاء الشاهد ليقيم الحجة بقوله: “إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍۢ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ ٱلْكَـٰذِبِينَ وَإِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن دُبُرٍۢ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ ٱلصَّـٰدِقِينَ” (يوسف: 26-27). وهنا تتجلى ملامح التحقيق القضائي في تمحيص الأدلة للوصول إلى الحقيقة، وهو ما تمارسه النيابة العامة في العصر الحديث حينما تتولى التحقيقات، وتستند إلى القرائن لإثبات الجريمة أو نفيها.
ولعل أوضح صورة لعمل النيابة العامة في القرآن الكريم تتجسد في قصة قارون، حينما تصدى له المؤمنون بقولهم: “وَٱبْتَغِ فِيمَآ ءَاتَىٰكَ ٱللَّهُ ٱلدَّارَ ٱلْـَٔاخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ ٱلدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَآ أَحْسَنَ ٱللَّهُ إِلَيْكَ” (القصص: 77). فقد قام هؤلاء بدور الرقيب الذي يحذر الطغاة ويذكّرهم بعواقب أعمالهم، وهو ما تفعله النيابة العامة عندما تواجه المجرمين وتحاسبهم وفقًا للقانون لمنع الفساد في الأرض.
وهكذا، فإن النيابة العامة، وإن كانت من إفرازات النظام القانوني الحديث، إلا أن مبدأها قائم في جوهره على قيم قرآنية ثابتة، تقوم على إحقاق الحق، ومنع الظلم، وحفظ أمن المجتمع من عبث المفسدين، وهو ما جاء به الإسلام ليكون دستورًا خالدًا يواكب تطور القوانين عبر العصور.
1-النبي موسى عليه السلام: وكيل الادعاء في وجه الطغيان
كما أن موسى عليه السلام لم يكتفِ بتقديم الاتهام، بل واجه فرعون بالحجج الدامغة، تمامًا كما تفعل النيابة العامة عند تقديم أدلتها في المحكمة، حيث قال الله تعالى على لسان موسى: “قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَآ أَنزَلَ هَـٰٓؤُلَآءِ إِلَّا رَبُّ ٱلسَّمَـٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضِ بَصَآئِرَ وَإِنِّى لَأَظُنُّكَ يَـٰفِرْعَوْنُ مَثْبُورًۭا” (الإسراء: 102). فكان بذلك صوت العدالة في وجه الظلم، يستخدم البرهان لإثبات جرائم الطغيان، ويطالب بتحرير بني إسرائيل من الاستعباد القسري. وقد تعزز هذا الدور عندما كشف موسى زيف دعاوى فرعون، وجعل محاججته قائمة على إظهار فساد النظام الحاكم، فقال الله تعالى على لسانه: “وَإِنِّى عُذْتُ بِرَبِّى وَرَبِّكُم مِّن كُلِّ مُتَكَبِّرٍۢ لَّا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ ٱلْحِسَابِ” (غافر: 27). فكان بذلك مثالًا للقوة في مواجهة الظلم، لا يخشى سطوة الحاكم، بل يعرض أدلته بوضوح، ويطلب محاسبة الظالم، تمامًا كما تفعل النيابة العامة عندما توجه الاتهام إلى المتهم، دون أن ترضخ لأي نفوذ سياسي أو اجتماعي. ولم يكن دور موسى عليه السلام مقتصرًا على الاتهام والمرافعة، بل تعداه إلى إقامة الدليل العملي على براءته مما يُنسب إليه، كما حدث عندما ألقى عصاه، فأبطل سحر السحرة، وكشف زيف ما كان يروج له فرعون، فقال الله تعالى: “فَأَلْقَىٰ مُوسَىٰ عَصَاهُ فَإِذَا هِىَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ” (الشعراء: 45). وهذا يوازي ما تقوم به النيابة العامة عندما تقدم الأدلة والقرائن القاطعة التي تدحض مزاعم الخصوم، وتثبت الحقيقة أمام القضاء. وهكذا، فإن موسى عليه السلام كان نموذجًا قرآنيًا مبكرًا لدور النيابة العامة، في سعيها نحو إحقاق الحق، وكشف الباطل، والدفاع عن المظلومين في وجه الظالمين.
٢- الهدهد: وكيل ادعاء ضد الفساد السياسي والديني
لم يكتفِ الهدهد بنقل الوقائع مجردة، بل قدّم تقريرًا تفصيليًا يكشف فيه أركان المخالفة العقائدية لمملكة سبأ، مستعرضًا الأدلة والشواهد التي تثبت وقوعها في الشرك، حيث قال: “وَزَيَّنَ لَهُمُ ٱلشَّيْطَـٰنُ أَعْمَـٰلَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ ٱلسَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ” (النمل: 24). وهذا يُماثل دور النيابة العامة حين تقوم بتحليل الظروف المحيطة بالجريمة، وتقديم استنتاجاتها حول الدوافع والملابسات. وما يميز دور الهدهد أنه لم يكن مجرد ناقل للخبر، بل كان فطنًا في تقديم توصيته بضرورة التدخل السريع، فقال على لسانه: “فَٱنظُرْ مَاذَا تَأْمُرُ” (النمل: 30)، أي أنه قدّم تقريره دون أن يصدر حكمًا نهائيًا، تاركًا أمر القرار الأخير للسلطة الأعلى، تمامًا كما تفعل النيابة العامة عندما تقدم لائحة الاتهام إلى القضاء، دون أن تتجاوز سلطتها إلى إصدار الأحكام. وعليه، فإن قصة الهدهد في القرآن الكريم تُبرز نموذجًا مبكرًا لفكرة النيابة العامة في النظام القانوني الحديث، إذ كان شاهدًا، ومحققًا، ومحللًا، ومستشارًا في آنٍ واحد، جامعًا بين الدقة في نقل الوقائع، والذكاء في استنتاجاته، والحرص على تطبيق العدالة، مما يعكس الدور المحوري الذي تضطلع به النيابة العامة في كشف الجرائم وإقامة الحق.
٣- الرجل المؤمن من آل فرعون: يدافع عن متهم بالبراءة
لقد اتسمت مرافعة هذا الرجل المؤمن بالحكمة والمنطق القانوني السليم، إذ لم يكتفِ بمجرد الدفاع العاطفي، بل قدّم حججًا عقلية تُفند الاتهام الباطل، قائلًا: “وَإِن يَكُ كَـٰذِبًۭا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُۥ ۖ وَإِن يَكُ صَادِقًۭا يُصِبْكُم بَعْضُ ٱلَّذِى يَعِدُكُمْ” (غافر: 28). وهذا يُشابه مرافعات النيابة العامة حين تزن الأدلة بحيادية، فلا تُوجّه الاتهام جزافًا، بل تبحث عن الحقيقة وفقًا للمنطق والوقائع. كذلك، كان موقف هذا الرجل شاهدًا على أن وظيفة الدفاع عن الحق ليست حكرًا على جهة محددة، بل قد يقوم بها أي فرد متى امتلك الشجاعة والعقل الراجح، تمامًا كما أن بعض النظم القانونية تمنح النيابة العامة سلطة حفظ القضية إن تبيّن أن الأدلة غير كافية، أو حتى طلب البراءة إذا ظهر أن الاتهام لا يستند إلى أساس متين. وعليه، فإن هذا المشهد القرآني يجسد بوضوح مبدأ “افتراض البراءة”، الذي تقوم عليه القوانين الحديثة، حيث لا يجوز إدانة أي شخص دون بينة قاطعة، وهو ذات النهج الذي تسير عليه النيابة العامة حين تتوخى العدل، فلا تتحول إلى خصم جائر، بل تظل أداة لحماية الحقوق، وضمان عدم التسرع في إنزال العقوبات دون دليل دامغ.
٤- يوسف عليه السلام: نموذج للنيابة العامة في التحقيق العادل
في هذا المشهد، يتجلى الدور التحقيقي للنبي يوسف عليه السلام بوضوح، حيث لم يتسرع في توجيه الاتهام، بل بدأ باستجواب المتهمين وسؤالهم عن العقوبة التي يرونها مناسبة إن كانوا كاذبين، فقال: “قَالَ مَا جَزَآؤُهُۥٓ إِن كُنتُمْ كَٰذِبِينَ” (يوسف: 74). وهذا الأسلوب يُشبه ما يُعرف في الإجراءات القانونية الحديثة بالتحقيق الاستقصائي، حيث تُترك للمتهم فرصة للإجابة قبل إصدار أي قرار. كما أن يوسف عليه السلام لم يعتمد على مجرد الاشتباه، بل لجأ إلى التفتيش والتقصي للتأكد من وقوع الجريمة، إذ أمر بتفتيش أوعية إخوته بحثًا عن صواع الملك، في مشهد يُحاكي عمليات البحث والتحري التي تُجريها النيابة العامة اليوم لجمع الأدلة المادية قبل توجيه أي اتهام رسمي. وفي ذلك تأكيد على أن الإدانة لا تُبنى على الظنون أو الاتهامات الجزافية، بل على أدلة قاطعة وتحقيقات نزيهة، وهو ما يجعل دور النيابة العامة في القانون الحديث امتدادًا لمبادئ العدالة التي جاءت بها الشرائع السماوية، حيث لا يجوز أن يُدان أحد إلا بناءً على تحقيق عادل يراعي الحقوق، ويُقيم الحجة بالبينة، ويُحترم فيه مبدأ “المتهم بريء حتى تثبت إدانته”.
٥- النيابة العامة في حفظ الحقوق العامة ومحاربة الظلم
تُعد النيابة العامة حصن المجتمع في حماية الحقوق العامة ومحاربة الظلم، إذ إنها الجهة المخولة بالسهر على سيادة القانون وضمان عدم تغوّل القوي على الضعيف. فكما أن القضاء هو ميزان العدل، فإن النيابة العامة هي الحارس الأمين الذي يمنع اختلال هذا الميزان، عبر تحريك الدعاوى ضد المعتدين، ورد الحقوق إلى أصحابها، والتصدي لكل صور الظلم والانحراف. وفي القرآن الكريم، نجد أن محاربة الظلم وإقامة العدل مسؤولية مجتمعية قبل أن تكون اختصاصًا قانونيًا، فقد أمر الله تعالى بالتصدي للجور وعدم السكوت على الباطل، فقال: “وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى ٱلَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ ٱلنَّارُ” (هود: 113)، مما يعكس مبدأ عدم التهاون مع الجريمة، وعدم الممالأة للظالمين.فالنيابة العامة ليست خصمًا للمتهم، وإنما هي سلطة تسعى إلى تحقيق العدالة، إذ يمثل أعضاؤها المجتمع في الدفاع عن الحق العام، كما أنهم ملزمون بالحياد وعدم التعسف في استعمال سلطتهم. وهذا المعنى تجلّى في قوله تعالى: “إِنَّ ٱللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّواْ ٱلْأَمَٰنَٰتِ إِلَىٰٓ أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ ٱلنَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِٱلْعَدْلِ” (النساء: 58)، حيث يبيّن أن الوظائف القضائية أمانة عظيمة، ومن يتولاها يجب أن يلتزم بالعدل والموضوعية، لا أن ينحاز أو يجور على أحد. وهذا ما يؤكد أن النيابة العامة ليست مجرد سلطة اتهام، بل هي سلطة تحمي الحقوق وتحرص على تحقيق العدالة دون ميل أو تحيز، فلا تسعى إلى إدانة المتهمين بغير وجه حق، وإنما تسعى إلى إظهار الحقيقة، حتى لو أدى ذلك إلى إثبات براءة المتهم، لأن العدل لا يتحقق إلا بإعطاء كل ذي حق حقه.
وهذا هو جوهر دور النيابة العامة، إذ تمثل يد الدولة في ردع الظالم وإنصاف المظلوم، وهي تقوم بذلك عبر التحقيق، وجمع الأدلة، وإقامة الحجة، واتخاذ الإجراءات القانونية لضمان تحقيق العدل. كما أن النيابة العامة لا تقتصر على ملاحقة المجرمين، بل تتولى حماية النظام العام، وصيانة القيم المجتمعية، وضمان عدم إساءة استخدام السلطة. وهذا ما يتجلى في قوله تعالى: “يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوا كُونُوا قَوَّٰمِينَ لِلَّهِ شُهَدَآءَ بِٱلْقِسْطِ ۖ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَـَٔانُ قَوْمٍ عَلَىٰٓ أَلَّا تَعْدِلُواْ ۚ ٱعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ” (المائدة: 8)، أي أن العدل لا يتجزأ، ولا يجوز أن يُحابي جهة على حساب أخرى، بل هو واجب مطلق يجب تحقيقه في جميع الأحوال. ومن هنا، فإن النيابة العامة ليست مجرد سلطة اتهام، وإنما هي سلطة عدل وإنصاف، تستند إلى مبادئ الحق والحياد، وتسعى إلى إقامة التوازن بين حفظ الحقوق العامة وردع الظلم، دون تعسف أو جور، بل وفق قواعد القانون وروح العدالة.
الخاتمة: النيابة العامة بين التشريع الإلهي والقانون الحديث
فالنيابة العامة، إذن، ليست مجرد جهاز إداري يتولى رفع الدعاوى ومباشرة التحقيقات، بل هي في جوهرها سلطة قائمة على تحقيق العدل، ورد الحقوق، وحماية المجتمع من الظلم والفساد. وقد أرسى القرآن الكريم مبادئها الأساسية، حين أكّد أن الحق لا يُقام إلا بحجة، وأن الاتهام يجب أن يكون مدعومًا بالدليل، وأن القاضي أو المحقق لا يجوز له التسرع في إصدار الأحكام قبل استكمال الأدلة والبراهين، كما جاء في قوله تعالى: “وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ۚ إِنَّ ٱلسَّمْعَ وَٱلْبَصَرَ وَٱلْفُؤَادَ كُلُّ أُو۟لَٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا” (الإسراء: 36).
ولهذا، فإن النيابة العامة حين تلتزم بمبادئ النزاهة والحياد، وتحترم حقوق المتهمين، وتسعى إلى كشف الحقيقة بعيدًا عن الأهواء والانحياز، فإنها بذلك تجسد روح العدالة التي جاءت بها الشريعة الإلهية، وتحقق المقصد الأسمى للقانون، ألا وهو إقامة الحق، وإنصاف المظلوم، وردع الظالم، وفق ميزان لا يميل ولا ينحرف.