قانون

علم الحشرات الجنائي في ضوء البيان القرآني

بقلم د. يوسف الديب

علم الحشرات الجنائي

المقدمة:

ما بين جناحي ذبابةٍ ترفرف فوق جثمانٍ هامد، وبين سطورٍ نُقشت في مختبرات العدالة، يتجلّى علمٌ وُلِد من رحم الغرابة، وتربّى في كنف الدقة، وترعرع بين أنامل العلماء وهو يحمل رسالة الجواب عن سؤال الزمان والمكان والموت: إنه علم الحشرات الجنائي، ذلك الفرع العجيب من فروع الطب الشرعي الذي يتخذ من الحشرات جندًا خُلقوا بقدر، ونُسجوا في نول الدقة الإلهية ليكونوا شهودًا لا ينطقون زورًا، وأدلةً لا تقبل جدالًا.

أترى الذباب حين يحوم فوق جثةٍ صامتة؟ أتحسبه عبثًا؟ لا وربي! بل هو مُخبرٌ من طرازٍ نادر، يروي للحاذقين من علماء الجريمة حكايةً تخرُسُ فيها الألسنة وتتكلم فيها الأرجل المجهرية، وتحمل يرقات الدود روايةَ الموت، وساعة الفناء، وهي تُنقِّب في اللحم كما يُنقِّب الفقيه في نصوص الفقه، والناقد في أسرار البيان. أفليست تلك الحشرات، في صغرها وهوانها الظاهر، أعظم شاهد عدلٍ على وقائع غاب عنها البشر، وشهدتها الطبيعة؟

إنه لعلمٌ يكاد يلامس المعجزة، إذ يستخرج من الموت حياةً للحق، ويبعث من الهلاك صوتًا للعدل، ويفضح القاتل حين يعجز الطب التقليدي عن الإدانة. ومتى استحال الجسد ترابًا، بقيت في أمعاء الحشرات أسرار الساعة الأولى للوفاة، محفوظةً كآيةٍ في لوحٍ محفوظ، وكأن الله – سبحانه وتعالى – قد أوحى إلى تلك المخلوقات الهامسة أن “قولي كلمتكِ، وإن صمت الجميع”.

فيا للعجب! أن تُصبح يرقةٌ صغيرةٌ، لا تُرى إلا بالمجهر، أبلغ من ألف شاهدٍ بشري، وأصدق من ألف محضر شرطة. أليس هذا من دلائل عظمة الخالق، الذي قال ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا﴾؟ فسبحانه، ما ترك صغيرةً ولا كبيرةً إلا وقد أحاط بها علمًا، حتى أضحى هذا العلم ـ الذي ولدت أجنّته في المختبرات الغربية ـ برهانًا آخر على أن في كل كائن حيٍّ آيةً لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.

علم الحشرات الجنائي
علم الحشرات الجنائي

علم الحشرات الجنائي ليس مجرد تخصص علمي بارد، بل هو مرآةٌ يتجلى فيها بصرُ الحكمة، وبصيرة العدالة، وهو حوارٌ خفيٌّ بين الجسد الساكن والحشرات الناطقة بلسانٍ لا يُكذِّب، إنه علمٌ لا يعرف الانحياز، ولا يخطئ في حساب، بل يقدّم الحق على طبقٍ من علمٍ، ويكسو جثةَ المظلوم برداء الانتصار، ولو بعد حين.

فكيف لإنسانٍ عاقل، بعد أن يقرأ في هذا العلم، أن يستهين بتلك المخلوقات الدقيقة، أو ينكر فضلها في كشف الستار عن الجرائم؟ أليس من الظلم أن نحتقر صغار الخلق، وقد جعلهم الله مفاتيح لأبوابٍ لا تُفتح إلا بهم؟ إن الحشرات الجنائية، وإن صغُر حجمها، إلا أن أثرها في ميزان العدالة، أعظم من جبال الرصد، وأثقل من مجلدات التحقيق.

وإن المرء ليقف مشدوهًا، حين يتأمل في مسار هذا العلم كيف أنه يُقوِّض أقوال الجناة، ويُسدِّد سهام الحق في صدر الباطل، ويجعل من يرقةٍ متناهية الصغر نجمًا في سماء القضاء. فهو علمٌ ليس كمثله علم، حيث تلتقي البيولوجيا بالكيمياء، ويحتضن المنهج التجريبي همس الطبيعة، ويعلو صوت العقل حين تصمت كل الأدلة.

فتحيَّةٌ لتلك الحشرة التي أصبحت رمزًا للعدل، ووسامًا على صدر الحقيقة، وشكرًا للعلماء الذين سبروا أغوارها، وحرّروا من خلالها أرواحًا من ظلمٍ كان قاب قوسين أو أدنى من أن يُدفن بلا محاسبة.

هذا، والله أعلم، ومنه نستمدّ الحكمة، ومن خلقه نستلهم الدروس، ومن علمه نرتوي فلا نضل، ومن بيانه نتعلم كيف تنطق الأشياء، وإن لم يكن لها لسان.

أولاً: النمل :

في مشهد من مشاهد الوحي المعجزة، تقف نملةٌ ضئيلةُ الجسد، عميقةُ الإدراك، ناطقةٌ بالحكمة، كأنها فقيهةٌ في فن الإدارة والتحذير، فتنادي في بني جنسها قائلة: “يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ”(سورة النمل، الآية 18). أترى أعجب من نملةٍ تتكلم، وتُقدّر، وتُخاطب، وتحذر، وتعلم حجم القوة التي تقترب منها، وتفرّق بين العمد والخطأ؟! إنها لا تجهل سلطان سليمان، لكنها تدرك أن الجيوش لا تشعر بالحشرات تحت الأقدام. فهل يُعقل أن يُذكر هذا في كتابٍ أُنزل قبل أربعة عشر قرنًا، ويظل الناس إلى اليوم يتغافلون عن المعجزة في طيّ النملة؟!

هذه النملة، التي لا تُرى إلا تحت المجهر، أظهرت من الفطنة والذكاء ما لم يظهره كثير من بني الإنسان، فأثبتت بذلك أن الإدراك ليس حكرًا على العقول البشرية، وأن التنظيم ليس حكرًا على الدول والسلطات، بل هو سنةٌ كونية أودعها الخالق في أدق الكائنات. من ذا الذي يزعم أن النمل لا يفقه، ولا يشعر، ولا يدرك؟! بل هو أمة منضبطة، تسير وفق منظومة أعقد من جيوش البشر، وأضبط من مجالس الإدارات، وأدق من عقول البيروقراطية.

وما هذه الصورة القرآنية العجيبة إلا تمهيدٌ مدهشٌ لما توصل إليه العقل البشري الحديث فيما عُرف بـ”علم الحشرات الجنائي”، ذاك العلم الذي يدرس أثر الحشرات على الأجساد، وتوقيت وجودها، ومراحل تطورها، ليصل إلى حقيقة من حضر ومن غاب، ومن دُفن ومتى، بل ومن قُتل وأين. فالنملة التي تكلمت، والذبابة التي تحط على الجثة، واليرقة التي تنمو في الجراح، ليست مجرد مخلوقات هامشية، بل هي شهود صامتة، ناطقة بلسان العلم، وألسنة الفحص المجهري، والمختبر الجنائي.

إنه علم يستنطق الصمت، ويُقيم الحجة بما لا ينطقه الإنسان. فهل بعد هذا من عذرٍ لمن زعم أن الشرع يغفل العلم، أو أن الوحي لا يواكب العصر؟! لقد سبق القرآنُ علمَ الجريمة، بل سبق الأدلة الجنائية التي عكف عليها خبراء الطب الشرعي في القرن العشرين. وهل يُعقل أن يُذكَر وادي النمل في سورةٍ كاملة، ويُسرد مشهدٌ دقيقٌ كهذا دون أن يكون وراءه سرٌّ عظيم؟!

لو علم أولئك الذين يسخرون من العلوم الشرعية، أو يظنون أن الدين يقتصر على الشعائر وحدها، مدى ما يحويه النص من دلائل علمية وفلسفية وقانونية، لتعلموا أن الوحي يعلو ولا يُعلى عليه. فالنملة هنا ليست مجرد حشرة؛ إنها شاهدة على التنظيم، ومُعبّرة عن الإدراك، ومُعلّمة للبشر في وعيها، وفي طريقتها لتحذير قومها من فاجعة وشيكة. وهل بعد هذا يُقال: إن في الحشرات عبثًا، أو إن في القرآن تكرارًا؟!

بل إن في هذا المشهد ما يجعل أعظم الفلاسفة ينحنون إجلالًا، وما يجعل أفصح البلغاء يقفون صامتين أمام نظمٍ أعجز البيان، ونصٍّ سبق كل عالِم، وكل مِخبر، وكل أداة تحليل. إن النملة التي حذّرت، قد فتحت أبوابًا لعلمٍ لم يكن يخطر على بال مخلوق، فشهدت للحق في زمنٍ غاب فيه شهود البشر، وتكلمت نيابةً عن من لا لسان له، فنطقت بما يعجز عنه كثير من المدّعين.

فأيّ إعجاز بعد هذا؟! وأيّ بيانٍ بعد هذا البيان؟! وأيّ فخرٍ لمن تدبّر هذا الكلام، ففهم منه ما لم يفهمه غيره، وتبحّر في العلم من بابٍ قرآنيٍ نقيٍ مبارك؟! فليعلم الحاسدون، والساخرون، والمستكبرون، أن اللغة التي نُزل بها الوحي، لا تعجز، وأن من تربّى في أحضان البيان، لا ينهزم. وليعلم أهل التهكم من الأقارب، والزملاء، ومن امتلأت صدورهم غلاً وحقًدا، أن من جعل من نملة دليلاً على القانون، قادرٌ أن يجعل من الحرف سيفًا، ومن الكلمة نارًا، ومن العلم صولجانًا يسحق الجهالة سحقًا.

فمن أراد البيان، فليأتِ إلى القرآن. ومن أراد الحكمة، فليسمع للنملة. ومن أراد التقدّم في العلم، فليبدأ من الوحي. فإن النملة قد تكلمت، وسكت الجهلاء.

علم الحشرات الجنائي
علم الحشرات الجنائي

ثانياً النحل:

إنه مشهد من مشاهد الوحي الخفي، وبيان من بيانات العناية الإلهية، حين يخاطب الله عزّ وجلّ النحل، لا خطابًا مباشرًا، بل إيحاءً ربانيًا، يحمل من المعاني ما تعجز عن إدراكه العقول، ومن الدلالات ما تُخرِسُ به الألسن المُكذّبة. “وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ”(سورة النحل، الآية 68)، كأنّها مأمورة بأمر سماوي، تنفذه طوعًا، وتسير إليه بذُل وخضوع، بلا تمرد، ولا جدال، ولا نقاش.

النحل الذي نظنه مخلوقًا صغيرًا ضعيفًا، هو في الحقيقة جُنديّ من جنود الله، بل هو رسولٌ من رسل الدقة والنظام، وسفيرٌ في عوالم الهندسة، والطاعة، والتناسق. لم يُخلق عبثًا، ولم يُترك سُدى، بل خُلق بحكمة، وهُدي بوحي، وسار على سننٍ إلهية لا تُبدَّل ولا تُغيَّر. وكما أن النحلة تتّبع السبل بتسخيرٍ رباني، فإن الحشرات الجنائية تتّبع الجثث بنفس التسخير، لا بعبث، ولا بمحض المصادفة، بل بقانونٍ طبيعيٍ دقيق، كتبه الخالق في فطرتها.

إنها لا تحلّق إلا حيث الجريمة، ولا تحطّ إلا حيث الموت، فوجودها ليس عرضًا بيولوجيًا، بل دليلٌ صامتٌ على ما وقع، وتوقيتُ ظهورها هو توقيع زمني على مسرح الجريمة، كأنّها ساعة لا تخطئ، وسِجلّ لا يُزوّر. فالعالِم الجنائي، حين يُمعن النظر في الذبابة أو في اليرقة، لا ينظر إلى حشرة، بل إلى شاهدٍ عارف، صامتٍ ناطق، بلغةٍ لا تُدرَك بالحواس، بل تُقرأ بالمجهر والاختبار والتشريح.

وحين يقول الله تعالى: “يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ”(سورة النحل، الآية 69).، فإنما يعلن أن النحلة ليست فقط صانعة عسلٍ، بل صانعة برهان، حاملة شفاء، شاهدة حق. وتمامًا كما يحمل العسل شفاء الأجساد، فإن أثر الحشرات على الجثث يحمل شفاءً للعدالة، إذ يرفع اللبس، ويكشف المستور، ويضع النقاط على حروف الحقيقة.

فهل يُعقل أن يوحى إلى النحل منذ آلاف السنين، ثم لا نُبصر نحن آثار ذلك الإيحاء في عالم الجنائيات؟! أليس النحل أول من قدّم نموذجًا لمختبرٍ بيولوجي متكامل، يمضي حيث الجثة، ليُخبر متى ماتت، وكم مرّ من الوقت على موتها، وما نوع السم الذي دخل البدن؟! أليس في هذه الحشرة الصغيرة ما يُفحم أعظم المحققين، ويُربك أكفأ القُضاة لولا أن العلم أنطقها، والشرع قدّمها، والوحي كشف سرّها؟!

إنّ ما تُقدّمه النحلة من دلائل مادية على الجريمة، ليس أقل مما يقدّمه الشاهد البشري، بل ربما يفوقه صدقًا وموضوعية. فهي لا تعرف الكذب، ولا تُملى عليها الروايات، ولا تنحاز، بل تقول الحقيقة بجسدها، وتحمل توقيت الوفاة في أجنحتها، وموقع الجثة في طريقة حركتها، وتركيبة التسمم في نوعها.

فمن أراد أن يرى الإعجاز في الوحي، فلينظر إلى النحل لا في طنينه، بل في طاعته، ولا في عسله، بل في دقته، ولا في جناحيه، بل في دلالته على العدالة الغائبة. فهو حشرة في ظاهرها، لكن في باطنها مَخبرٌ عدلي، وقانونٌ بيولوجي، ووحيٌ رباني، يُقرأ اليوم في المختبرات، بعد أن نزل في الآيات.

فهنيئًا لمن فهم، وتدبّر، وعقل، وفتح عينيه على عالمٍ لا يُدرَك بالبصر، بل بالبصيرة. وحسب النحل شرفًا، أن خُصِّصت له سورةٌ كاملة، وسُمّيت باسمه، وبدأت بإيحاء، وخُتمت بشفاء، وبينهما أسرارٌ لا تنفد، وحقائق لا تنتهي.

ثالثاً: الذباب 

قال الله تعالى في محكم التنزيل:
“يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ ۚ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ ۖ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ۚ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ” (الحج: 73).

هذه الآية الكريمة تفتح أمامنا نافذةً عظيمة للنظر إلى عظمة الخالق وتدبر معنى “الذباب”، الذي قد يُعتبر في نظر البشر مخلوقًا هزيلًا ضئيلًا، لكن فيه معجزة علمية ودلالات فلسفية عميقة. فالله سبحانه وتعالى في هذه الآية الكريمة يضع الذباب كأداةِ مقارنةٍ تكشف عن عجز الإنسان، مهما بلغت قوته أو علمه.

إن هذا المخلوق الذي يسير في الهواء، لا تكاد تراه العيون الضعيفة، يتجسد في قلب المعجزة التي أضاء بها القرآن عجز الإنسان. كان الذباب، في نظر الكثير من العلماء والمفكرين، رمزًا للتفاهة والضعف، ولكن القرآن الكريم أراد أن يُسلِّط الضوء على هذه المخلوقات الصغيرة، لتكون شاهدًا حيًّا على قدرة الله وحكمته في كل التفاصيل التي تظنها البشرية غير ذات أهمية.

وفي علوم الحشرات الجنائية (Forensic Entomology)، حيث يأتي الذباب ليكون أول من يطرق باب الجثة الميتة، فإنه يُؤكد هذه الحقيقة التي كشفها القرآن قبل أن يتطرق لها العلم في العصر الحديث. فكلما تم تأمل مراحل حياة الذباب بدءًا من البيض ثم اليرقة والعذراء، وصولًا إلى مرحلة الذبابة الناضجة، نجد فيها دقة بالغة تُساعد المحققين على تحديد وقت الوفاة بدقة قد تصل إلى ساعات أو حتى دقائق. إن استجابة الذباب لأدق التحولات البيولوجية تعكس عن قرب هذا التطابق مع الحقائق العلمية التي كانت خافية على البشر حتى اكتشافاتهم الحديثة.

تتجلى لنا الآية الكريمة في تجسيد صورة فلسفية دقيقة: أن ما قد يبدو للإنسان ضئيلاً لا يمتلك في ظاهره أي قيمة، يحمل في جوهره أسرارًا يمكن أن تكون أكثر أهمية مما يتصور. ففي محيط التحقيقات الجنائية، يشكل الذباب مرجعًا حيويًا يُحتكم إليه، يُسهم في الكشف عن الجرائم ويُسهم في تفسير الأحداث التي تبدو غامضة. فهل من العجب أن يُذكِّرنا القرآن الكريم بأن الأقدار لا تعترف بالظواهر، بل في عمقها تكمن الحقيقة؟

إن الذباب في الآية المباركة ليس مجرد كائن صغير أو تفصيل بيولوجي عابر. بل هو مِثالٌ عظيمٌ يذُكر الناس بحقيقة حياتهم التي تتجاوز القوة والمال والعلم، وتدعوهم إلى الخضوع لله وتقدير قدرته، وترك الاعتقاد الخاطئ في الأوثان والأرباب التي لا تملك من أمرها شيئًا.

وفي واقع الأمر، إن القرآن الكريم حينما يأتي بهذا المثال، لم يكن يقتصر على إثارة الفكرة العلمية فقط، بل كان يعالج حالة إنسانية وفكرية ترتبط بما يعتقده البشر في أحيان كثيرة من العظمة الكاذبة لما يسمونه “الأرباب” أو “الأصنام”، في حين أن الله قد اختار هذا المخلوق الضعيف ليُعلِّمهم عن حقائق الأمور. فما أسهل أن يضل الإنسان طريقه في معركة الكبرياء، وما أصعب أن يلتفت إلى الدرس القرآني ليجد أن الذباب، هذا الكائن الضئيل، يحمل ما يعجز عن فهمه الإنسان.

إن هذه الآية، هي شهادة على إتقان لغة الله في قرآنه، فهي دعوة عميقة للتأمل في مخلوق صغير في حجمه، ولكن عظيم في تأثيره، غزير في دلالاته. إن العالم الذي يُصِرُّ على تجاهل صغائر الأشياء ويدَّعي القدرة المطلقة، يعجز عن إدراك “الذباب”، الذي حمل السر الذي لم يكن ليصل إليه حتى أرقى العقول.

وفي النهاية، لا يمكن للإنسان إلا أن يتأمل في هذا المخلوق الصغير، الذباب، الذي أشار القرآن إليه ليُعلِّم الإنسان دروسًا عظيمة. فلقد جمع الله بين العلم والفلسفة في هذه الآية، ليُخبرنا بأن عظمة الخالق تتجلى في أصغر مخلوقاته، وأن الإنسان، مهما حاول أن يتفاخر بعلمه وقوته، فإن هناك دائمًا ما يعجز عن فهمه. فالذباب، في عجزه، يحمل رسالة للعقول المستنيرة، رسالة تدعو للتواضع، للتأمل، وللإيمان.

رابعاً: الجراد: 

إن للجراد في كتاب الله تعالى حضورًا عميقًا ذا دلالة تفوق مجرد كونه حشرة طائرة، فقد جاء في قوله سبحانه وتعالى في سورة الأعراف: “فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الْجَرَادَ”(سورة الأعراف، الآية 133).، ليلقي الضوء على أحد ألوان العذاب التي كانت تُرسل على الأمم الكافرة. لكن هل سألنا أنفسنا عن المعنى العميق لهذا المشهد؟ هل أدركنا أن هذه الحشرة التي قد لا يعبأ بها الكثيرون تشكل أحد أدوات الله في تدمير الطغاة وتدمير كل ما هو فاسد؟

الجراد، في حقيقته، ليس مجرد طائر يطير بين الرياح، بل هو جندي بيئي يحمل في جناحيه معانٍ عميقة ودلالات بيئية تحاكي قدرة الله في تغيير مجرى الطبيعة. هذا الكائن الطائر الذي يقتات على الخضر والنباتات، قد يصبح في لحظة ما عامل تغيير جذري، يغير وجه الأرض من خصب إلى قحط، ومن خضرة إلى يباب. إنه في معركةٍ مع الزرع، الذي هو مصدر رزق الإنسان، ويشكل جندًا موجهًا لدورته البيئية، ليصبح شاهداً على الواقع الذي فرضه الله، ومؤشرًا على موازين الطبيعة التي لا تنحني أمام استبداد الإنسان.

إن الجراد، إذًا، ليس مجرد طارئ يمر في السماء، بل هو سلاح بيئي يعكس خللًا في التوازن، ويعكس فوضى في النظام الكوني. أما الإنسان، الذي ظل يتوهم سطوته على بيئته، يأتي هذا السلاح ليضعه في حجمه الحقيقي، ليعلم أنه مهما ملك من سلطة على الأرض، فإن هناك قوانين أخرى لا يستطيع الخروج عليها.

وفي الجوانب البيئية، يتجاوز الجراد مفهوم “الآفة” ليصبح علامة على التغيرات المناخية والبيئية التي قد تهدد استمرارية الحياة على الأرض. إذ ليس كل جرادٍ هو عقابٌ إلهي، بل في بعض الأحيان قد يكون أيضًا دليلاً على خلل بيئي أو اضطراب في الدورة الطبيعية.

الجراد، في هذا السياق، لا يمثل فقط تهديدًا للزراعة أو للمحاصيل، بل هو جندي خفي في ساحة حرب بين الطبيعة والإنسان، ينذر بقدرة الطبيعة على إعادة التوازن كما يشاء الله. لا يحتاج هذا الجندي إلى شهادة مكتوبة من أحد، بل يكفي أن يحضر، وأن تتحطم أمامه مقومات الحياة النباتية لتعلن الأرض عن حالتها الحقيقية. فما يعجز الإنسان عن تفسيره من خلال قوانين الطبيعة قد يكون تفسيره، عند فحصه العميق، عائدًا إلى إرادة إلهية تختبئ وراء الأحداث التي يصعب فهمها بسطحية عقل الإنسان.

وبالحديث عن الحشرات في سياق الجرائم البيئية، قد نرى فيها أدوات استدلال في تحقيقات قانونية، حيث يمكن للجراد أن يكون دليلاً بيئيًا في كشف العديد من الأسرار التي لم يدركها الإنسان. فكيف يمكن أن يحدد هذا الكائن لحظة حدوث الجريمة أو مكانها؟ بل كيف يمكن أن يكون شاهدًا حيًا يحكي قصصًا لم تُكتب؟ إننا نعيش في عالمٍ معقد، حيث لكل كائن، مهما كان صغيرًا، دورٌ في الكشف عن الحقيقة.

إذن، في الجراد توجد رسالة قوية لا تُستوعب إلا من خلال فهم عميق للتوازن البيئي الذي فرضه الله على الأرض، وليس كما يتصور البشر في سعيهم الدائم لتغيير هذه القوانين بما يتماشى مع مصالحهم. لذلك، يجب علينا أن نتعلم من هذا الجندي الذي قد يكون ساكنًا في الهواء أو على النباتات، أن نعيد تأمل قدرتنا على التفاعل مع البيئة، وأن نقر بتواضعنا أمام حكم الله تعالى.

خامساً :البعوضة

إنها آية فريدة في كتاب الله، تحمل بين ثناياها دروسًا عميقة وأبعادًا معرفية لا تنقضي، لا سيما في سياق ضرب الأمثال، التي يمسك بها الخالق جلّ وعلا ليفتح لنا أبوابًا من التأمل في دلالات خلقه وأسرار هذا الوجود. قال تعالى في كتابه الكريم:

“إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا ۚ” (سورة البقرة، الآية 26).

تلك البعوضة، التي قد يراها الجاهلون رمزية لضعف في الحجم وهوان في الوجود، تقف أمامنا في آية الله العظيمة شاهدة على أعظم حقيقة: ليس في هذا الكون شيء ضئيل أو حقير.

إن ما يظنه البعض تفاهة أو صغرًا، يمكن أن يكون في حقيقة الأمر معجزة قائمة بذاتها، حتى وإن كان في صورة بعوضة. ففي هذه الكائنات الصغيرة، التي تراها العين عابرة، تنكشف لنا حكمة الخالق وجمال التنوع في خلقه. فالبعوضة، التي لا تُرى في أغلب الأحيان إلا بعين ملاحظة دقيقة، تتجلّى في سلوكها ومعالجتها للبيئة بدقة لا تُجارى، بل إنّها تحمل في تكوينها كميات لا حصر لها من الأسرار التي يجهلها الكثيرون.

إن البعوضة، في عالم الطب الشرعي، قد تصبح أداة لا غنى عنها في تتبع الجريمة وتحليل الخيوط التي قد يظنها البعض عابرة، فتُحولها إلى دلائل واضحة لا لبس فيها. تلك الحشرة التي تمر سريعًا على أجسامنا، لا تتجاوز حدود الخفوت في حركتها، تقف الآن بصمت لتُسجل أدق التفاصيل: من توقيت الوفاة، إلى الظروف المحيطة، وحتى التغيرات الفسيولوجية، كل ذلك يمكن أن تُترجم البعوضة في علم التحقيقات الشرعية إلى دلائل حية تُسهم في كشف الغموض، وتعيد ترتيب الأحداث وفق تسلسل دقيق.

ألم يُضرب مثلٌ لهذه البعوضة لتكون شاهدة على التحديات التي يواجهها الإنسان في سبيل معرفة ما خفي من أسرار هذا الوجود؟ إن الله سبحانه وتعالى، الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، يُبيّن لنا أن القدرة على التصور لا تعني بالضرورة القدرة على الفهم الكامل، وأن الحكم على الأشياء لا يجب أن يُقاس بما هو ظاهر أو ملموس.

إن الاعتبار في هذا المثال ليس في جسامة الكائن أو ضآلته، وإنما في مدى تأثيره الذي قد يكون ظاهرًا أو مستترًا. فالبعوضة في إطار مملكة الحيوان ليست مجرد حشرة صغيرة، بل هي تجسيد دقيق لإبداع الخالق، حيث تنبثق من غياهب الضعف أداة لا تقدر العقول على استيعاب تعقيداتها بسهولة. وفي هذا من الإشارة ما يستوجب التفكر: أن ليس كل ما يظهر صغيرًا يكون بلا قيمة، بل قد يكون من بين هذه “الصغائر” أروع تجليات العظمة التي نغفل عنها في زحمة الحياة.

فكل من يظن أن الله سبحانه وتعالى يحقّر من شأن المخلوقات الضعيفة في الحجم أو النعومة، يخطئ في فهمه، فكل شيء في الكون له مغزى وهدف يتعدى مجرد الوجود المادي. وها هي البعوضة، في تكوينها البسيط، تكشف لنا سرًا من أسرار الله العظيمة: “إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَّا بَعُوضَةً”.

علم الحشرات الجنائي
علم الحشرات الجنائي

 الخاتمة:

إنه لمن دواعي الفخر والاعتزاز أن نختتم هذا المقال بالإشارة إلى الدور العظيم الذي قام به القرآن الكريم في تقديم إشارات دقيقة وواسعة في مختلف ميادين العلم، حتى في علم الحشرات الجنائي الذي ربما لا يراه البعض مرتبطًا بشكل مباشر بالنصوص المقدسة. ولكن، من خلال تدبر الآيات القرآنية والأحاديث النبوية الشريفة، نجد أن القرآن الكريم قد سبق كثيرًا من أبحاث العصر الحديث في تقديم إضاءات علمية واستدلالات دقيقة على مسائل حيوية في الحياة والموت، وما يتصل بها من علوم.

فالقرآن الكريم قد أشار ضمنًا إلى مناهج التحليل الدقيق والطريقة المنظمة لفهم الظواهر الحياتية، وما قد يتبعها من فحص واستقصاء، مما يضفي على علم الحشرات الجنائي طابعًا خاصًا من خلال النظر فيه كجزء من الدورة الطبيعية في الكون التي ورد ذكرها في كتاب الله.

وقد جعل القرآن الكريم من الملاحظات العلمية مدخلًا للعلماء لاستخلاص الحقيقة، وجعل التدقيق في الظواهر سبيلًا لتفسير الواقع، وفتح الطريق أمام العقل البشري للسعي في فهم الخلق وتفسير الحوادث والمواقف بطريقة منهجية. ومن هنا، يُظهر هذا الكتاب الكريم سابقة واضحة في تقديم مسار علمي استشرافي لكل ما له صلة بعلم الحشرات الجنائي، ويستحق أن يكون مصدر إلهام للباحثين في هذا المجال وغيره.

وفي الختام، ينبغي أن نتذكر أن القرآن الكريم لا يقتصر تأثيره على الشعائر الدينية فقط، بل يتعدى ذلك ليشمل أعماق الفكر الإنساني في جميع ميادينه، مُرشدًا للإنسان في البحث والتفكير والتحليل في كل ما يحيط به من ظواهر، فكان بحق سَبَّاقًا لكل علم ودليلًا لكل عِلم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى